صفحة جزء
فصل :

وأما قوله " ليس فيها ما يوجب اتباعهم " فنقول : الآية تقتضي الرضوان عمن اتبعهم بإحسان ، وقد قام الدليل على أن القول في الدين بغير علم حرام ; فلا يكون اتباعهم قولا بغير علم ، بل قولا بعلم ، وهذا هو المقصود ، وحينئذ فسواء يسمى تقليدا أو اجتهادا ، وأيضا فإن كان تقليد العالم للعالم حراما كما هو قول الشافعية والحنابلة فاتباعهم ليس بتقليد لأنه مرضي ، وإن كان تقليدهم جائزا أو كان تقليدهم مستثنى من التقليد المحرم فلم يقل أحد إن تقليد العلماء من موجبات الرضوان ; فعلم أن تقليدهم خارج عن هذا ، لأن تقليد العالم ، وإن كان جائزا فتركه إلى قول غيره أو إلى اجتهاد جائز أيضا بالاتفاق ، والشيء المباح لا يستحق به الرضوان ، وأيضا فإن رضوان الله غاية المطالب التي لا تنال إلا بأفضل الأعمال ، ومعلوم أن التقليد الذي يجوز خلافه ليس بأفضل الأعمال ، بل الاجتهاد أفضل منه ، فعلم أن اتباعهم هو أفضل ما يكون في مسألة اختلفوا فيها هم ومن بعدهم ، وأن اتباعهم دون من بعدهم هو الموجب لرضوان الله ; فلا ريب أن رجحان أحد القولين يوجب اتباعه .

[ وقولهم أرجح ] بلا شك ، ومسائل الاجتهاد لا يتخير الرجل فيها بين القولين ، وأيضا فإن الله أثنى على الذين اتبعوهم بإحسان ، والتقليد وظيفة العامة ، فأما العلماء فإما أن يكون مباحا لهم أو محرما ; إذ الاجتهاد أفضل منه لهم بغير خلاف ، وهو واجب عليهم ، فلو أريد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة في ذلك النصيب الأوفى ، وكان حظ علماء الأمة من هذه الآية أبخس الحظوظ ، ومعلوم أن هذا فاسد ، وأيضا فالرضوان عمن اتبعهم دليل على أن اتباعهم صواب ليس بخطإ ; فإنه لو كان خطأ لكان غاية صاحبه أن يعفى له عنه ، فإن المخطئ إلى أن يعفى عنه أقرب منه إلى أن يرضى عنه ، وإذا كان صوابا وجب اتباعه ; لأن خلاف الصواب خطأ ، والخطأ يحرم اتباعه إذا علم أنه خطأ ، وقد علم أنه خطأ يكون الصواب خلافه ، وأيضا فإذا كان اتباعهم موجب الرضوان لم يكن ترك اتباعهم موجب الرضوان ; لأن الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وضده ولا وجوده وعدمه ; لأنه يبقى عديم الأثر في ذلك الجزاء ، وإذا كان في المسألة قولان أحدهما يوجب الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحق ما يوجبه ، وهذا هو المطلوب ، وأيضا فإن طلب رضوان الله واجب ; لأنه إذا لم [ ص: 99 ] يوجد رضوانه فإما سخطه أو عفوه ، والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة ، وذلك لا تباح مباشرته إلا بالنص ، وإذا كان رضوانه إنما هو في اتباعهم ، واتباع رضوانه واجب ، كان اتباعهم واجبا ، وأيضا فإنه إنما أثنى على المتبع بالرضوان ، ولم يصرح بالوجوب ; لأن إيجاب الاتباع يدخل في الاتباع في الأفعال ، ويقتضي تحريم مخالفتهم مطلقا ، فيقتضي ذم المخطئ ، وليس كذلك ، أما الأقوال فلا وجه لمخالفتهم فيها بعدما ثبت أن فيها رضا الله تعالى وأيضا فإن القول إذا ثبت أن فيه رضا الله لم يكن رضا الله في ضده ، بخلاف الأفعال فقد يكون رضا الله في الأفعال المختلفة وفي الفعل والترك بحسب قصدين وحالين ، أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك ، فإذا ثبت أن في قولهم رضوان الله تعالى لم يكن الحق والصواب إلا هو ; فوجب اتباعه .

فإن قيل : السابقون هم الذين صلوا إلى القبلتين ، أو هم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم ، فما الدليل على اتباع من أسلم بعد ذلك ؟ قيل : إذا ثبت وجوب اتباع أهل بيعة الرضوان فهو أكبر المقصود ، على أنه لا قائل بالفرق ، وكل الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية