صفحة جزء
فإن قيل : فإذا كان هذا حكم أقوالهم في أحكام الحوادث ، فما تقولون في أقوالهم في تفسير القرآن ؟ هل هي حجة يجب المصير إليها ؟ . [ أقوال الصحابة في تفسير القرآن ]

قيل : لا ريب أن أقوالهم في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع ، قال أبو عبد الله الحاكم في مستدركه : وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع ، ومراده أنه في حكمه في الاستدلال به والاحتجاج ، لا أنه إذا قال الصحابي في الآية قولا فلنا أن نقول هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وله وجه آخر .

وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لهم معاني القرآن وفسره لهم كما وصفه تعالى بقوله : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فبين لهم القرآن بيانا شافيا كافيا ، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنى سأله عنه فأوضحه له ، كما سأله الصديق عن قوله تعالى { : من يعمل سوءا يجز به } فبين له المراد ، وكما سأله الصحابة عن قوله تعالى : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } فبين لهم معناها ، وكما سألته أم سلمة عن قوله تعالى { : فسوف يحاسب حسابا يسيرا } فبين لها أنه العرض ، وكما سأله عمر عن الكلالة فأحاله على آية الصيف التي في آخر السورة ، وهذا كثير جدا ، فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن فتارة ينقلونه عنه بلفظه ، وتارة بمعناه ، فيكون ما فسروا بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى ، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها ، وتارة بمعناها ، وهذا أحسن الوجهين ، والله أعلم .

فإن قيل : فنحن نجد لبعضهم أقوالا في التفسير تخالف الأحاديث المرفوعة الصحاح ، وهذا كثير ، كما فسر ابن مسعود الدخان بأنه الأثر الذي حصل عن الجوع الشديد والقحط ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخان يأتي قبل يوم القيامة يكون من أشراط الساعة مع الدابة والدجال وطلوع الشمس من مغربها .

وفسر عمر بن الخطاب قوله تعالى { : أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } بأنها للبائنة والرجعية ، حتى قال : [ ص: 118 ] لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة ، مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير ، وفسر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قوله تعالى { : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } أنها عامة في الحامل والحائل ، فقال : تعتد أبعد الأجلين والسنة الصحيحة بخلافه .

وفسر ابن مسعود قوله تعالى { : وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } بأن الصفة لنسائكم الأولى والثانية ; فلا تحرم أم المرأة حتى يدخل بها ، والصحيح خلاف قوله ، وأن [ أم ] المرأة تحرم بمجرد العقد على ابنتها ، والصفة راجعة إلى قوله : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } وهو قول جمهور الصحابة .

وفسر ابن عباس السجل بأنه كاتب النبي صلى الله عليه وسلم يسمى السجل ، وذلك وهم وإنما السجل الصحيفة المكتوبة ، واللام مثلها في قوله تعالى { ; وتله للجبين } ، وفي قول الشاعر :

فخر صريعا لليدين وللفم

أي يطوي السماء كما يطوي السجل على ما فيه من الكتاب ، وهذا كثير جدا ، فكيف يكون تفسير الصحابي حجة في حكم المرفوع ؟ قيل : الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء ، وصورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء ، وصورتها أن لا يكون في المسألة نص يخالفه ، ويقول في الآية قولا لا يخالفه فيه أحد من الصحابة ، سواء علم لاشتهاره أو لم يعلم ، وما ذكر من هذه الأمثلة فقد فقد فيه الأمران ، وهو نظير ما روي عن بعضهم من الفتاوى التي تخالف النص وهم مختلفون فيها سواء .

فإن قيل : لو كان قوله حجة بنفسه لما أخطأ ، ولكان معصوما ; لتقوم الحجة بقوله ، فإذا كان يفتي بالصواب تارة وبغيره أخرى ، وكذلك تفسيره فمن أين لكم أن هذه الفتوى المعينة والتفسير المعين من قسم الصواب ؟ إذ صورة المسألة أنه لم يقم على المسألة دليل غير قوله ، وقوله ينقسم ، فما الدليل على أن هذا القول المعين من أحد القسمين ولا بد ؟ قيل : الأدلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة ، وهو أن من الممتنع أن يقولوا في كتاب الله الخطأ المحض ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به ، وهذه الصورة المذكورة وأمثالها قد تكلم فيها غيرهم بالصواب ، [ ص: 119 ] والمحظور إنما هو خلو عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط ; فهذا هو المحال .

وبهذا خرج الجواب عن قولكم : لو كان قول الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ ، فإن قوله لم يكن بمجرده حجة ، بل بما انضاف إليه مما تقدم ذكره من القرائن .

التالي السابق


الخدمات العلمية