صفحة جزء
[ لا يفتي ولا يحكم إلا بما يكون عالما بالحق فيه ] الفائدة الحادية عشرة :

إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة فإما أن يكون عالما بالحق فيها أو غالبا على ظنه بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته ، أو لا ، فإن لم يكن عالما بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ، ولا يقضي بما لا يعلم ، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله ، ودخل تحت قوله تعالى { : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } فجعل القول عليه بلا علم أعظم المحرمات الأربع التي لا تباح بحال ; ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر .

ودخل تحت قوله تعالى { : ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } ودخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم { من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه } وكان أحد القضاة الثلاثة الذين ثلثاهم في النار ، وإن كان قد عرف الحق في المسألة علما أو ظنا غالبا لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره بالإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام ، وهو أحد القضاة الثلاثة والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة ، وإذا كان من أفتى أو حكم أو شهد بغير علم مرتكبا لأعظم الكبائر ، فكيف من أفتى [ ص: 133 ] أو حكم أو شهد بما يعلم خلافه ؟ .

فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم مخبر عن حكم الله ; فالحاكم مخبر منفذ ، والمفتي مخبر غير منفذ ، والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الأمري ; فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدا { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة } ، ولا أظلم ممن كذب على الله وعلى دينه ، وإن أخبروا بما لم يعلموا فقد كذبوا على الله جهلا ، وإن أصابوا في الباطن ، وأخبروا بما لم يأذن الله لهم في الإخبار به .

وهم أسوأ حالا من القاذف إذا رأى الفاحشة وحده فأخبر بها فإنه كاذب عند الله ، وإن أخبر بالواقع ; فإن الله لم يأذن له في الإخبار بها إلا إذا كان رابع أربعة ، فإن كان كاذبا عند الله في خبر مطابق لمخبره حيث لم يأذن له في الإخبار به فكيف بمن أخبر عن حكمه بما لم يعلم أن الله حكم به ، ولم يأذن له في الإخبار به ؟ قال الله تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم } ، وقال تعالى : { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه } والكذب على الله يستلزم التكذيب بالحق والصدق ، وقال تعالى : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } .

وهذه الآيات وإن كانت في حق المشركين والكفار فإنها متناولة لمن كذب على الله في توحيده ودينه وأسمائه وصفاته وأفعاله ، ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده واستفرغ وسعه في إصابة حكم الله وشرعه ، فإن هذا هو الذي فرضه الله عليه ، فلا يتناول المطيع لله وإن أخطأ ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية