صفحة جزء
[ لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة ] الفائدة السادسة عشرة : لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة ، بل عليه أن يبين بيانا مزيلا للإشكال ، متضمنا لفصل الخطاب ، كافيا في حصول المقصود ، لا يحتاج معه إلى غيره ، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال : يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل وكتبه فلان .

وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال : تصلى على حديث عائشة ، وإن كان هذا أعلم من الأول .

وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال : أما أهل الإيثار فيخرجون المال كله ، وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه ، أو كما قال .

وسئل آخر عن مسألة فقال : فيها قولان ، ولم يزد .

قال أبو محمد بن حزم : وكان عندنا مفت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب ، فيكتب هو : جوابي فيها مثل جواب الشيخ ، فقدر أن مفتيين اختلفا في جواب ، فكتب تحت جوابهما : جوابي مثل جواب الشيخين ، فقيل له : إنهما قد تناقضا ، فقال : وأنا أتناقض كما تناقضا ، وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى ، وهو مقدم في مذهبه ، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب : يجوز كذا ، أو يصح كذا ، أو ينعقد بشرطه ، فأرسل إليه يقول له : تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه ، ونحن لا نعلم شرطه ، فإما أن تبين شرطه ، وإما أن لا تكتب ذلك .

وسمعت شيخنا يقول : كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط ، فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أو يصح بشرطه أو يقبل بشرطه ونحو ذلك ، وهذا ليس بعلم ، ولا يفيد فائدة أصلا سوى حيرة السائل وتبلده ، وكذلك قول بعضهم في فتاويه : يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم ، فيا سبحان الله ، والله لو كان الحاكم شريحا وأشباهه لما كان مرد أحكام الله ورسوله إلى رأيه فضلا عن حكام زماننا فالله المستعان .

وسئل بعضهم عن مسألة فقال : فيها خلاف ، فقيل له : كيف يعمل المفتي ؟ فقال : يختار له القاضي أحد المذهبين .

قال أبو عمرو بن الصلاح : كنت عند أبي السعادات بن الأثير الجزري ، فحكى لي عن بعض المفتين أنه سئل عن مسألة فقال : فيها قولان ، فأخذ يزري عليه ، وقال : هذا حيد عن الفتوى ، ولم يخلص السائل من عمايته ، ولم يأت بالمطلوب قلت : وهذا فيه تفصيل ; فإن المفتي المتمكن من العلم [ ص: 137 ] المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها فلا يقدم على الجزم بغير علم ، وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل .

وكثيرا ما يسأل الإمام أحمد رضي الله عليه وغيره من الأئمة عن مسألة فيقول : فيها قولان ، أو قد اختلفوا فيها ، وهذا كثير في أجوبة الإمام أحمد لسعة علمه وورعه ، وهو كثير في كلام الإمام الشافعي رضي الله عنه ، يذكر المسألة ثم يقول : فيها قولان .

وقد اختلف أصحابه هل يضاف القولان اللذان يحكيهما إلى مذهبه وينسبان إليه أم لا ؟ على طريقين ، وإذا اختلف علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد وأبي وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ولم يتبين للمفتي القول الراجح من أقوالهم فقال : هذه مسألة اختلف فيها فلان وفلان من الصحابة ، فقد انتهى إلى ما يقدر عليه من العلم .

قال أبو إسحاق الشيرازي : سمعت شيخنا أبا الطيب الطبري يقول : سمعت أبا العباس الحضرمي يقول : كنت جالسا عند أبي بكر بن داود الظاهري ، فجاءته امرأة فقالت : ما تقول في رجل له زوجة لا هو ممسكها ولا هو مطلقها ، فقال لها : اختلف في ذلك أهل العلم ، فقال قائلون : تؤمر بالصبر والاحتساب ، ويبعث على التطلب والاكتساب ، وقال قائلون : يؤمر بالإنفاق ولا يحمل على الطلاق ، فلم تفهم المرأة قوله ، فأعادت المسألة ، فقال : يا هذه أجبتك عن مسألتك ، وأرشدتك إلى طلبتك ، ولست بسلطان فأمضي ، ولا قاض فأقضي ، ولا زوج فأرضي ، فانصرفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية