صفحة جزء
[ هل يجوز أن يقلد الفتوى المتفقه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة ] الفائدة الحادية والعشرون :

إذا تفقه الرجل وقرأ كتابا من كتب الفقه أو أكثر ، وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف ، والاستنباط والترجيح فهل يسوغ تقليده في الفتوى ؟ فيه للناس أربعة أقوال : الجواز مطلقا ، والمنع مطلقا ، والجواز عند عدم المجتهد ، ولا يجوز مع وجوده ، والجواز إن كان مطلعا على مأخذ من يفتي بقولهم ، والمنع إن لم يكن مطلعا .

[ ص: 151 ] والصواب فيه التفصيل ، وهو أنه إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا ، ولا يحل لهذا أن ينسب نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم ، وإن لم يكن في بلده أو ناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يقدم على العمل بلا علم ، أو يبقى مرتبكا في حيرته مترددا في عماه وجهالته ، بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها .

ونظير هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيا عاريا من شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض ، وولى الأمثل فالأمثل ، ونظير هذا لو كان الفسق هو الغالب على أهل تلك البلد ، وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض ، وشهادته له تعطلت الحقوق وضاعت قبل شهادة الأمثل فالأمثل .

ونظيرها لو غلب الحرام المحض أو الشبهة حتى لم يجد الحلال المحض فإنه بتناول الأمثل بالأمثل ، ونظير هذا لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو عرض أو مال ، وهن منفردات ، بحيث لا رجل معهن كالحمامات والأعراس ، قبلت شهادة الأمثل فالأمثل منهن قطعا ، ولا يضيع الله ورسوله حق المظلوم ، ولا يعطل إقامة دينه في مثل هذه الصورة أبدا ، بل قد نبه الله تعالى على القبول في مثل هذه الصورة بقبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة أنزلت في القرآن ، ولم ينسخها شيء ألبتة ، ولا نسخ هذا الحكم كتاب ولا سنة ولا أجمعت الأمة على خلافه ، ولا يليق بالشريعة سواه .

فالشريعة شرعت لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان ، وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أسباب تلك الحقوق شاهدان حران ذكران عدلان ؟ بل إذا قلتم : تقبل شهادة الفساق حيث لا عدل ، وينفذ حكم الجاهل والفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عالم عادل ، فكيف لا تقبل شهادة النساء إذا خلا جمعهن عن رجل ، أو شهادة العبيد إذا خلا جمعهم عن حر ، أو شهادة الكفار بعضهم على بعض إذا خلا جمعهم عن مسلم ؟ وقد قبل ابن الزبير شهادة الصبيان بعضهم على بعض في تجارحهم ، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة ، وقد قال به مالك والإمام أحمد رحمهما الله تعالى في إحدى الروايتين عنه حيث يغلب على الظن صدقهم بأن يجيبوا قبل أن يجتنبوا أو يتفرقوا إلى بيوتهم ، وهذا هو الصواب ، وبالله التوفيق .

وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين ; فقد منع كثير منهم الفتوى [ ص: 152 ] والحكم بالتقليد ، وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد كما قال أبو إسحاق بن شاقلا - وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي ينبغي له أن يحفظ أربعمائة ألف حديث ثم يفتي - فقال له الرجل : أنت تحفظ هذا ؟ فقال : إن لم أحفظ هذا فأنا أفتي بقول من كان يحفظه ، وقال [ أبو الحسن بن بشار من كبار أصحابنا : ما ضر رجلا عنده ثلاث مسائل أو أربع من فتاوى الإمام أحمد يستند إلى هذه السارية ويقول : قال أحمد بن حنبل .

التالي السابق


الخدمات العلمية