صفحة جزء
[ ص: 159 ] دلالة العالم للمستفتي على غيره ] الفائدة الخامسة والعشرون : في دلالة العالم للمستفتي على غيره ، وهو موضع خطر جدا ، فلينظر الرجل ما يحدث من ذلك فإنه متسبب بدلالته إما إلى الكذب على الله ورسوله في أحكامه أو القول عليه بلا علم ، فهو معين على الإثم والعدوان وإما معين على البر والتقوى ، فلينظر الإنسان إلى من يدل عليه ، وليتق الله ربه فكان شيخنا - قدس الله روحه - شديد التجنب لذلك ، ودللت مرة بحضرته على مفت أو مذهب ، فانتهرني وقال : ما لك وله ؟ دعه ، ففهمت من كلامه أنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم ولمن أفتاه ، ثم رأيت هذه المسألة بعينها منصوصة عن الإمام أحمد .

قال أبو داود في مسائله : قلت لأحمد : الرجل يسأل عن المسألة فأدله على إنسان يسأله ؟ فقال : إذا كان - يعني الذي أرشدته إليه - متبعا ويفتي بالسنة ، فقيل لأحمد : إنه يريد الاتباع وليس كل قوله يصيب ، فقال أحمد : ومن يصيب في كل شيء ؟ قلت له : فرأي مالك ، فقال : لا تتقلد في مثل هذا بشيء ، قلت : وأحمد كان يدل على أهل المدينة ويدل على الشافعي ويدل على إسحاق ولا خلاف عنه في استفتاء هؤلاء ، ولا خلاف عنه في أنه لا يستفتي أهل الرأي المخالفون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالله التوفيق ، ولا سيما كثير من المنتسبين إلى الفتوى في هذا الزمان وغيره ، وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالسجن من السراق .

قال بعض العلماء : فكيف لو رأى ربيعة زماننا ، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا ، وتوثبه عليها ، ومد باع التكلف إليها ، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة ، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب ، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ، ولا يبدي جوابا بإحسان ، وإن ساعد القدر فتواه كذلك يقول فلان بن فلان .

يمدون للإفتاء باعا قصيرة وأكثرهم عند الفتاوى يكذلك وكثير منهم نصيبهم مثل ما حكاه أبو محمد بن حزم ، قال : كان عندنا مفت قليل البضاعة ، فكان لا يفتي حتى يتقدمه من يكتب الجواب فيكتب تحته : جوابي مثل جواب الشيخ ، فقدر أن اختلف مفتيان في جواب ، فكتب تحتهما : جوابي مثل جواب الشيخين ، فقيل له : إنهما قد تناقضا ، فقال : وأنا أيضا تناقضت كما تناقضا ، وقد أقام الله - سبحانه - لكل [ ص: 160 ] عالم ورئيس وفاضل من يظهر مماثلته ، ويرى الجهال وهم الأكثرون مساجلته ومشاكلته ، وأنه يجري معه في الميدان ، وأنهما عند المسابقة كفرسي رهان ، ولا سيما إذا طول الأردان ، وأرخى الذوائب الطويلة وراءه كذنب الأتان ، وهدر باللسان ، وخلا له الميدان الطويل من الفرسان .

فلو لبس الحمار ثياب خز لقال الناس : يا لك من حمار وهذا الضرب إنما يستفتون بالشكل لا بالفضل ، وبالمناصب لا بالأهلية ، قد غرهم عكوف من لا علم عنده عليهم ، ومسارعة من أجهل منهم إليهم ، تعج منهم الحقوق إلى الله - تعالى - عجيجا ، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجا .

فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل من فتيا أو قضاء أو تدريس ، استحق اسم الذم ، ولم يحل قبول فتياه ولا قضائه ، هذا حكم دين الإسلام .

وإن رغمت أنوف من أناس فقل : يا رب لا ترغم سواها

التالي السابق


الخدمات العلمية