صفحة جزء
[ كذلكة المفتي ] الفائدة السادسة والعشرون : في حكم كذلكة المفتي ، ولا يخلو من حالين إما أن يعلم صواب جواب من تقدمه بالفتيا أو لا يعلم ، فإن علم صواب جوابه فله أن يكذلك ، وهل الأولى له الكذلكة أو الجواب المستقل ؟ فيه تفصيل ، فلا يخلو المبتدئ إما أن يكون أهلا أو متسلقا متعاطيا ما ليس له بأهل ، فإن كان الثاني فتركه الكذلكة أولى مطلقا ; إذ في كذلكته تقرير له على الإفتاء ، وهو كالشهادة له بالأهلية ، وكان بعض أهل العلم يضرب على فتوى من كتب وليس بأهل ، فإن لم يتمكن من ذلك خوف الفتنة منه فقد قيل : لا يكتب معه في الورقة ، ويرد السائل ، وهذا نوع تحامل .

والصواب أنه يكتب في الورقة الجواب ، ولا يأنف من الإخبار بدين الله الذي يجب عليه الإخبار به لكتابة من ليس بأهل ; فإن هذا ليس عذرا عند الله ورسوله وأهل العلم في كتمان الحق ، بل هذا نوع رياسة وكبر ، والحق لله عز وجل ، فكيف يجوز أن يعطل حق الله ويكتم دينه لأجل كتابة من ليس بأهل ؟ وقد نص الإمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازة فرأى فيها منكرا لا يقدر على إزالته أنه لا يرجع ، ونص على أنه إذا دعي إلى وليمة عرس فرأى فيها منكرا لا يقدر على إزالته أنه يرجع ، فسألت شيخنا عن الفرق فقال : لأن الحق في الجنازة للميت ، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر ، والحق في الوليمة لصاحب البيت ، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة ، وإن كان المبتدي بالجواب أهلا للإفتاء فلا يخلو إما أن يعلم المكذلك صواب [ ص: 161 ] جوابه أو لا يعلم ، فإن لم يعلم صوابه لم يجز له أن يكذلك تقليدا له ; إذ لعله أن يكون قد غلط ، ولو نبه لرجع ، وهو معذور ، وليس المكذلك معذورا ، بل مفت بغير علم ، ومن أفتى بغير علم فإثمه على من أفتاه ، وهو أحد المفتين الثلاثة الذين ثلثاهم في النار ، وإن علم أنه قد أصاب فلا يخلو إما أن تكون المسألة ظاهرة لا يخفى وجه الصواب فيها بحيث لا يظن بالمكذلك أنه قلده فيما لا يعلم أو تكون خفية ، فإن كانت ظاهرة فالأولى الكذلكة لأنه إعانة على البر والتقوى ، وشهادة للمفتي بالصواب ، وبراءة من الكبر والحمية ، وإن كانت خفية بحيث يظن بالمكذلك أنه وافقه تقليدا محضا فإن أمكنه إيضاح ما أشكله الأول وزيادة بيان أو ذكر قيد أو تنبيه على أمر أغفله فالجواب المستقل أولى ، وإن لم يمكنه ذلك فإن شاء كذلك ، وإن شاء أجاب استقلالا .

فإن قيل : ما الذي يمنعه من الكذلكة إذا لم يعلم صوابه تقليدا له كما قلد المبتدي من فوقه ؟ فإذا أفتى الأول بالتقليد المحض فما الذي يمنع المكذلك من تقليده ؟ قيل : الجواب من وجوه ، أحدها : أن الكلام في المفتي الأول أيضا ، فقد نص الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة على أنه لا يحل للرجل أن يفتي بغير علم ، حكي في ذلك الإجماع ، وقد تقدم ذكر ذلك مستوفى .

الثاني : أن هذا الأول وإن جاز له التقليد للضرورة فهذا المكذلك المتكلف لا ضرورة له إلى تقليده ، بل هذا من بناء الضعيف على الضعيف ، وذلك لا يسوغ ، كما لا تسوغ الشهادة على الشهادة ، وكما لا يجوز المسح على الخفين على طهارة التيمم ، ونظائر ذلك كثيرة .

الثالث : أن هذا لو ساغ لصار الناس كلهم مفتين ; إذ ليس هذا بجواز تقليد المفتي أولى من غيره ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية