صفحة جزء
[ أقسام المفتين أربعة ] الفائدة التاسعة والعشرون : المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام : أحدهم العالم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة ; فهو المجتهد في أحكام النوازل ، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت ، ولا ينافي اجتهاده تقليده لغيره أحيانا ، فلا تجد أحدا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام ، وقد قال [ ص: 163 ] الشافعي - رحمه الله ورضي عنه - في موضع من الحج : قلته تقليدا لعطاء ; فهذا النوع الذي يسوغ لهم الإفتاء ، ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد ، وهم الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها } وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه ، وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته .

فصل :

النوع الثاني : مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به ; فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومأخذه وأصوله ، عارف بها ، متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلدا لإمامه لا في الحكم ولا في الدليل ، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره ، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا .

وقد ادعي هذه المرتبة من الحنابلة القاضي أبو يعلى والقاضي أبو علي بن أبي موسى في شرح الإرشاد الذي له ، ومن الشافعية خلق كثيرة ، وقد اختلف الحنفية في أبي يوسف ومحمد وزفر بن الهذيل ، والشافعية في المزني وابن سريج وابن المنذر ومحمد بن نصر المروزي ، والمالكية في أشهب وابن عبد الحكم وابن القاسم وابن وهب ، والحنابلة في أبي حامد والقاضي : هل كان هؤلاء مستقلين بالاجتهاد أو متقيدين بمذاهب أئمتهم ؟ على قولين ، ومن تأمل أحوال هؤلاء وفتاويهم واختياراتهم علم أنهم لم يكونوا مقلدين لأئمتهم في كل ما قالوه ، وخلافهم لهم أظهر من أن ينكر ، وإن كان منهم المستقل والمستكثر ، ورتبة هؤلاء دون رتبة الأئمة في الاستقلال بالاجتهاد .

فصل :

النوع الثالث : من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه ، مقرر له بالدليل ، متقن لفتاويه ، عالم بها ، لكن لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها ، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة ، وهذا شأن أكثر المصنفين في مذاهب أئمتهم ، وهو حال أكثر علماء الطوائف ، وكثير منهم يظن أنه لا حاجة به إلى معرفة الكتاب والسنة والعربية لكونه مجتزيا بنصوص إمامه ، فهي عنده كنصوص الشارع ، قد اكتفى بها من كلفة التعب والمشقة ، وقد كفاه الإمام استنباط الأحكام ومؤنة استخراجها من النصوص ، وقد يرى إمامه ذكر حكما بدليله ; فيكتفي هو بذلك الدليل من غير بحث عن معارض له .

[ ص: 164 ] وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطولة والمختصرة ، وهؤلاء لا يدعون الاجتهاد ، ولا يقرون بالتقليد ، وكثير منهم يقول : اجتهدنا في المذاهب فرأينا أقربها إلى الحق مذهب إمامنا ، وكل منهم يقول ذلك عن إمامه ، ويزعم أنه أولى بالاتباع من غيره ، ومنهم من يغلو فيوجب اتباعه ، ويمنع من اتباع غيره .

فيا لله العجب من اجتهاد نهض بهم إلى كون متبوعهم ومقلدهم أعلم من غيره ، أحق بالاتباع من سواه ، وأن مذهبه هو الراجح ، والصواب دائما معه ، وقعد بهم عن الاجتهاد في كلام الله ورسوله ، واستنباط الأحكام منه ، وترجيح ما يشهد له النص ، مع استيلاء كلام الله ورسوله على غاية البيان ، وتضمنه لجوامع الكلم ، وفصله للخطاب ، وبراءته من التناقض والاختلاف والاضطراب ، فقعدت بهم هممهم واجتهادهم عن الاجتهاد فيه ، ونهضت بهم إلى الاجتهاد في كون إمامهم أعلم الأمة وأولاها بالصواب ، وأقواله في غاية القوة وموافقة السنة والكتاب ، والله المستعان .

فصل :

النوع الرابع : طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه ، وحفظت فتاويه وفروعه ، وأقرت على أنفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه ، فإن ذكروا الكتاب والسنة يوما ما في مسألة فعلى وجه التبرك والفضيلة لا على وجه الاحتجاج والعمل ، وإذا رأوا حديثا صحيحا مخالفا لقول من انتسبوا إليه أخذوا بقوله وتركوا الحديث ، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم قد أفتوا بفتيا ، ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم وتركوا فتاوى الصحابة ، قائلين : الإمام أعلم بذلك منا ، ونحن قد قلدناه فلا نتعداه ولا نتخطاه ، بل هو أعلم بما ذهب إليه منا ، ومن عدا هؤلاء فمتكلف متخلف قد دنا بنفسه عن رتبة المشتغلين وقصر عن درجة المحصلين ، فهو مكذلك مع المكذلكين ، وإن ساعد القدر ، واستقل بالجواب قال : يجوز بشرطه ، ويصح بشرطه ، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي ، ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم ، ونحو ذلك من الأجوبة التي يستحسنها كل جاهل ، ويستحيي منها كل فاضل .

[ منزلة كل نوع من المفتين ] ففتاوى القسم الأول من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم ، وفتاوى النوع الثاني من [ ص: 165 ] جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم ، وفتاوى النوع الثالث والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم ، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعط ، متشبه بالعلماء ، محاك للفضلاء ، وفي كل طائفة من الطوائف متحقق بغيه ومحاك له متشبه به ، والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية