صفحة جزء
[ لا يعين المفتي على التحايل ولا على المكر ] وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل ، فيغر الناس ، ويكذب على الله ورسوله ، ويغير دينه ، ويحرم ما لم يحرمه الله ، ويوجب ما لم يوجبه الله ، والله المستعان .

الفائدة الرابعة والأربعون : ( يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ) ، ويرشده إلى مطلوبه ، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ، بل ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذرا فطنا فقيها بأحوال الناس وأمورهم ، يوازره فقهه في الشرع ، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل ، وباطنها مكر وخداع وظلم ؟ فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه ، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها ; فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم ، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود .

وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق ؟ وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل ؟ ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك ، بل هذا أغلب أحوال الناس ، ولكثرته وشهرته يستغنى عن الأمثلة .

بل من تأمل المقالات الباطلة والبدع كلها وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة وكسوها ألفاظا بها من لم يعرف حقيقتها ، ولقد أحسن القائل :

تقول هذا جناء النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير     مدحا وذما وما جاوزت وصفهما
والحق قد يعتريه سوء تعبير

ورأى بعض الملوك كأن أسنانه قد سقطت ، فعبرها له معبر بموت أهله وأقاربه ، فأقصاه وطرده ، واستدعى آخر فقال له : لا عليك ، تكون أطول أهلك عمرا ، فأعطاه وأكرمه وقربه ، فاستوفى المعنى ، وغير له العبارة ، وأخرج المعنى في قالب حسن .

[ ص: 177 ] والمقصود أنه لا يحل له أن يفتي بالحيل المحرمة ، ولا يعين عليها ، ولا يدل عليها ; فيضاد الله في أمره ، قال الله تعالى : { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } وقال تعالى : { ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم إنا دمرناهم وقومهم أجمعين } وقال تعالى : { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون } وقال تعالى : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } وقال تعالى : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } وقال تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } وقال تعالى : { وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } وقال تعالى في حق أرباب الحيل المحرمة : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ملعون من ضار مسلما أو مكر به } وقال : { لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل } وقال : { المكر والخديعة في النار } وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه صلى الله عليه وسلم : { ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته ، طلقتك راجعتك ، طلقتك راجعتك ؟ وفي لفظ : خلعتك راجعتك خلعتك راجعتك } وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم : { لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها } وقال أيوب السختياني : يخادعون الله كما يخادعون الصبيان ، وقال ابن عباس : من يخادع الله يخدعه ، وقال بعض السلف : ثلاث من كن فيه كن عليه المكر والبغي والنكث .

وقال تعالى : { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله } وقال تعالى { إنما بغيكم على أنفسكم } وقال تعالى : { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } وقال الإمام أحمد : هذه الحيل التي وضعها هؤلاء ، عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها أتوا إلى الذي قيل لهم إنه حرام فاحتالوا فيه حتى حللوه ، وقال : ما أخبثهم ، - يعني أصحاب الحيل - يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال : من احتال بحيلة فهو حانث .

وقال : إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها فقد صار إلى الذي حلف عليه بعينه .

وقد تقدم بسط الكلام في هذه المسألة مستوفى فلا حاجة إلى إعادته .

التالي السابق


الخدمات العلمية