صفحة جزء
[ هل تجوز الفتيا لمن عنده كتب الحديث ؟ ] الفائدة الثامنة والأربعون : إذا كان عند الرجل الصحيحان أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم موثوق بما فيه ، فهل له أن يفتي بما يجده فيه ؟ فقالت طائفة من المتأخرين : ليس له ذلك ; لأنه قد يكون منسوخا ، أو له معارض ، أو يفهم من دلالته خلاف ما يدل عليه ، أو يكون أمر ندب فيفهم منه الإيجاب ، أو يكون عاما له مخصص ، أو مطلقا له مقيد ، فلا يجوز له العمل ولا الفتيا به حتى يسأل أهل الفقه والفتيا .

وقالت طائفة : بل له أن يعمل به ، ويفتي به ، بل يتعين عليه ، كما كان الصحابة يفعلون ، إذا بلغهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث به بعضهم بعضا بادروا إلى العمل به من غير توقف ولا بحث عن معارض ، ولا يقول أحد منهم قط : هل عمل بهذا فلان وفلان ؟ ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار ، وكذلك التابعون ، وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم ، وطول العهد بالسنة وبعد الزمان وعتقها لا يسوغ ترك الأخذ بها والعمل بغيرها ، ولو كانت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان أو فلان لكان قول فلان أو فلان عيارا على السنن ، ومزكيا لها ، وشرطا في العمل بها ، وهذا من أبطل الباطل ، وقد أقام الله الحجة برسوله دون آحاد الأمة ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ سنته ، ودعا لمن بلغها ; فلو كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان ، والإمام فلان لم يكن في تبليغها فائدة ، وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان .

قالوا : والنسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث ألبتة بل ولا شطرها ; فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ أقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ ، ويجوز عليه التناقض والاختلاف ، ويقول القول [ ص: 181 ] ويرجع عنه ، ويحكي عنه في المسألة الواحدة عدة أقوال ، ووقوع الخطأ في فهم كلام المعصوم أقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعين ; فلا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطؤه من صوابه .

والصواب في هذه المسألة التفصيل ; فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بينة لكل من سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ، ويفتي به ، ولا يطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام ، بل الحجة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه ، وإن كانت دلالته خفية لا يتبين المراد منها لم يجز له أن يعمل ، ولا يفتي بما يتوهمه مرادا حتى يسأل ويطلب بيان الحديث ووجهه ، وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده ، والأمر على الوجوب ، والنهي على التحريم ; فهل له العمل والفتوى به ؟ يخرج على الأصل وهو العمل بالظواهر قبل البحث عن المعارض ، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره : الجواز ، والمنع ، والفرق بين العام [ والخاص ] فلا يعمل به قبل البحث عن المخصص ، والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض ، وهذا كله إذا كان ثم نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية ، وإذا لم تكن ثمة أهلية قط ففرضه ما قال الله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وقول النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا سألوا إذا لم يعلموا ، إنما شفاء العي السؤال } وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا وصعد فمن كلام إمامه ; فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بالجواز ، وإذا قدر أنه لم يفهم الحديث كما لو لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرفه معناه ، كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية