صفحة جزء
فصل [ الصحابة نهوا عن القياس أيضا ]

وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد قال أبو هريرة لابن عباس : إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال .

وفي صحيح مسلم من حديث سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أحب الكلام إلى الله - عز وجل - أربع } ، فذكر الحديث ، وفي آخره { ، لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح ، فإنك تقول : أثم هو ؟ فيقال : لا ، إنما هن أربع فلا تزيدن علي } .

قالوا : فلم يجز سمرة أن ينهى عما عدا الأربع قياسا عليها ، وجعل ذلك زيادة فلم يزد على الأربع بالقياس التسمية بسعد وفرج وخير وبركة ونحوها ، ومقتضى قول القياسيين أن الأسماء التي سكت عنها النص أولى بالنهي ; فيكون إلحاقها بقياس الأولى أو مثله .

فإن قيل : فلعل قوله { ، إنما هن أربع فلا تزيدن علي } ، مرفوع من نفس كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، أو لعل سمرة أراد بها إنما حفظت هذه الأربع فلا تزيدن علي في الرواية .

قيل : أما السؤال الأول فصريح في إبطال القياس ، فإن المعنى واحد ، ومع هذا فخص النهي بالأربع ، وأما السؤال الثاني فقوله " إنما هن أربع " يقتضي تخصيص الرواية والحكم بها ، ونفي الزيادة عليها رواية وحكما ; فلا تنافي بين الأمرين .

[ ص: 192 ] وقال شعبة : سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال : سمعت عبدة بن فيروز قال : { قلت للبراء بن عازب : حدثني ما كره أو نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أربع لا تجزئ في الأضاحي ، فذكر الحديث ، قال : فإني أكره أن تكون ناقصة القرن أو الأذن ، قال : فما كرهت منه فدعه ، ولا تحرمه على أحد } ، ولم يأذن له في القياس على الأربع ، ولم يقس عليها هو ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم .

وقال عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه ; فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو .

وقال عمر بن الخطاب : قد وضحت الأمور ، وتبينت السنة ، ولم يترك لأحد منكم متكلم إلا أن يضل عبد .

وقال ابن مسعود : من أتى الأمر على وجهه فقد بين له ، وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون ، ولو كان القياس من الدين لكان له ولغيره طاقة بقياس كل ما يرد عليهم على نظيره بوصف جامع شبهي ، وإذا كان القياسيون لا يعجزون عن ذلك فكيف الصحابة ؟ ولو كان القياس من الدين لكان الجميع مبينا ، ولما قسم ابن مسعود وغيره ما يرد عليهم إلى ما بينه الله وإلى ما لم يبينه ; فإن الله على قولكم قد بين الجميع بالنص والقياس .

فإن قيل : فهذا ينقلب عليكم ، فإنكم تقولون : إن الله - سبحانه - قد بين الجميع .

قلنا : ما بينه الله - سبحانه - نطقا فقد بين حكمه ، وما لم يبينه نطقا بل سكت عنه فقد بين لنا أنه عفو ، وأما القياسيون فيقولون : ما سكت عنه فقد بين أن حكمه حكم ما تكلم به ، وفرق عظيم بين الأمرين ، ونحن أسعد بالبيان النطقي والسكوتي منكم لتعميمنا البيانين وعدم تناقضنا فيهما ، وبالله التوفيق .

وقد تقدم قول ابن مسعود : ليس عام إلا والذي بعده شر منه ، لا أقول عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم .

وتقدم قول عمر : العلم ثلاثة : كتاب ناطق ، وسنة ماضية ، ولا أدري ، وقوله لأبي الشعثاء : لا تفتين إلا بكتاب ناطق ، أو سنة ماضية .

وقال سفيان الثوري : عن أبي إسحاق الشيباني قال : سمعت عبد الله بن أبي أوفى [ ص: 193 ] يقول : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر ، قلت : فالأبيض ؟ قال : لا أدري } ، ولم يقل وأي فرق بين الأخضر والأبيض كما يبادر إليه القياسيون .

وقال الزهري : كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش ، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ، ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأولئك جهالكم . ومعلوم أن القياس خارج عن كليهما .

وتقدم قول معاذ : تكون فتن يكثر فيها المال ، ويفتح القرآن ، حتى يقرأه الرجل والمرأة والكبير والصغير والمؤمن والمنافق ، ويقرأه الرجل فلا يتبع ، فيقول : والله لأقرأنه علانية ، فيقرأه علانية فلا يتبع ، فيتخذ مسجدا ويبتدع ، فكل ما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله فإياكم وإياه فإنها بدعة وضلالة .

وقال عبد العزيز بن المطلب : عن ابن مسعود : إنكم إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم عليكم وحرمتم كثيرا مما أحل لكم .

وقال الأوزاعي : عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس : من أحدث رأيا ليس من كتاب الله ولم تمض به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله - عز وجل - .

وقال أبو حنيفة : حدثنا جرير عن مجاهد أن عمر نهى عن المكايلة ، يعني المقايسة .

وقال الأثرم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا جعفر بن غياث عن أبيه عن مجاهد قال : قال عمر : إياك والمكايلة ، يعني المقايسة .

وقال الأثرم : ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن حبيب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عبد الله : يا أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم ، فإذا رأيتم محدثا فعليكم بالأمر الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية