صفحة جزء
العاشرة : خبر الواحد والطائفة المحصورة إذا أجمع الفقهاء على قبوله والعمل به كإجماعهم على الخبر المروي في ميراث الجدة ، وفي إنه { لا وصية لوارث } ، وفي أنه { لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها } يدل على الصدق قطعا عند الأستاذين أبي إسحاق وتلميذه أبي منصور ، والقاضي أبي الطيب ، والشيخ أبي إسحاق ، وسليم الرازي ، وابن السمعاني ، ونقله الغزالي في المنخول " عن الأصوليين . ونقله إلكيا الطبري عن الأكثرين ، ونقل عن الكرخي ، وأبي هاشم ، وأبي عبد الله البصري . وقال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن " : إن الأمة مجمعة على إثباته ، وأنه حق وصدق ، ومثله بخبر { في خمس أواق ، وخمس ذود ، وعشرين دينارا ، وأربعين من الغنم الزكاة } . قال : كما أنها إذا أجمعت على ترك الخبر وعدم العلم به دل على خلافه .

وذهب القاضي أبو بكر إلى أنه لا يدل على القطع بصدقه ، وإن تلقوه [ ص: 112 ] بالقبول قولا ونطقا ، وقصاراه غلبة الظن . واختاره إمام الحرمين والغزالي وإلكيا الطبري وغيرهم ، فإن تصحيح الأمة للخبر يجري على حكم الظاهر ، فإذا استجمع شروط الصحة أطلق عليه المحدثون الصحة ، فلا وجه للقطع والحالة هذه . وقيل : بالتفصيل بين أن يتفقوا على العمل به ، فلا يقطع بصدقه ، وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد ، وإن تلقوه بالقبول قولا ونطقا حكم بصدقه . ونقلهإمام الحرمين عن ابن فورك . وقال المازري : الإنصاف التفصيل ، فإن لاح من سائر العلماء مخايل القطع والتصميم وأنهم أسندوا التصديق إلى يقين ، فلا وجه للتشكيك ، ويحمل على أنهم علموا صحة الحديث من طرق خفيت علينا ، إما بأخبار نقلت متواترة ، ثم اندرست أو بغيرها ، وإن لاح منهم التصديق مستندا إلى تحسين الظن بالعدول بالبدار إلى القبول فلا وجه للقطع . ا هـ .

وقال إلكيا الطبري : فأما إذا اجتمعت الأمة على العمل بخبر الواحد لأجله ، فهذا هو المسمى مشهورا عند الفقهاء ، وهو الذي يكون وسطه وآخره على حد التواتر ، وأوله منقول عن الواحد ، ولا شك أن ذلك لا يوجب العلم ضرورة ، فإنه لو أوجبه ثبتت حجة النصارى ، واليهود ، والمجوس في أشياء نقلوها عن أسلافهم ، ونحن نخالفهم . وقد قال أبو هاشم في مثل ذلك : إن توافق الأمة على العمل به يدل على أن الحجة قد قامت به في الأصل ; لأن عادتهم فيما قبلوه من الأخبار قد جرت بأن ما لم تقم به الحجة لا يطبقون على قبوله ، فلما أطبقوا على قبوله فقد عظموا النكير على من خالفهم . ومنه أخبار أصول الزكاة [ ص: 113 ] والعبادات ، ولذلك اختلفوا فيما لم تقم به الحجة من الأخبار ، كرواية بروع بنت واشق ، وروايات أبي هريرة . قال : وبمثله احتججنا بالأخبار الواردة على صحة الإجماع ، فإنها وإن كانت أخبار آحاد ، ولكن تلقتها الأمة بالقبول ، ومنعت بسببها مخالفة الإجماع ، وشددت النكير على المخالف . فإن قيل : خبر الواحد ظني ، ولا يتفق جمع لا يحصون على الظن ، كما لا يتفقون على القياس ؟ قيل : الصحيح جواز استناد الإجماع إلى القياس ، ونقل إلكيا الطبري عن القاضي أبي بكر أنه قال : لا تتصور هذه المسألة ; لأن خبر الواحد إذا لم يوجب العلم ، فلا يتصور اتفاق الأمة على انقطاع الاحتمال حيث لا ينقطع ، واختار ذلك ابن برهان ، فقال : عدد التواتر إذا أجمعوا على العمل عن الواحد لم يصر متواترا ، وهل يفيد القطع أم لا ؟ قال : ولا يتصور هذا ; لأن خبر الواحد مظنون ، والظني لا ينقلب قطعيا . ونقل إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر أن تلقي الأمة بالقبول لا يقتضي القطع بالصدق للاحتمال . ثم قال : ثم قيل للقاضي : لو دفعوا هذا الظن ، وباحوا بالصدق ؟ فقال مجيبا : لا يتصور هذا ، فإنهم لا يصلون إلى العلم بصدقه ، ولو نطقوا لكانوا مجازفين ، وأهل الإجماع لا يجمعون على باطل . [ ص: 114 ]

قال أبو نصر بن القشيري : هكذا ذكره الإمام ، وقد حكيت عن القاضي أنه بين في كتاب التقريب " أن الأمة إذا أجمعت أو أجمع أقوام لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب من غير أن يظهر فيهم التواطؤ على أن هذا الخبر صدق - كان ذلك دليلا على الصدق . قال : فهذا عكس ما حكاه الإمام عنه . وقوله : إنهم لو نطقوا بهذا عن أمر علموه ، ذلك كلام لا يستند لأنا لا نطالب أهل الإجماع بمستند إجماعهم . وقال : ولعل ما حكاه الإمام فيما إذا تلقته الأمة بالقبول ولكن لم يحصل إجماع على تصديق المخبر ، فهذا وجه الجمع . ا هـ وهو بعيد ، وكلام الإمام يأباه . وجزم القاضي عبد الوهاب في الملخص " بصحة ما إذا تلقوه بالقبول ، قال : وإنما اختلفوا فيما إذا أجمعت على العمل بموجب الخبر لأجله ، هل يدل ذلك على صحته أم لا ؟ على قولين . قال : وكذلك إذا عمل بموجبه أكثر الصحابة ، وأنكروا على من عدل عنه ، فهل يدل على صحته وقيام الحجة به كحديث أبي سعيد وعبادة في الربا ، وتحريم المتعة . فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون حجة بذلك ، وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يدل على حجيته . قال : فهذا فرع الكلام في خلاف الواحد والاثنين ، هل يكون خلافا معتدا به ؟ والصحيح الاعتداد به ، وحينئذ يمتنع مع هذا أن لا يدل على صحة الخبر . ا هـ . [ ص: 115 ]

وقال ابن الصلاح : إن جميع ما اتفق عليه البخاري ومسلم مقطوع بصحته ; لأن العلماء اتفقوا على صحة هذين الكتابين والحق أنه ليس كذلك ، إذ الاتفاق إنما وقع على جواز العمل بما فيهما ، وذلك لا ينافي أن يكون ما فيهما مظنون الصحة ، فإن الله تعالى لم يكلفنا القطع ، ولذلك يجب الحكم بموجب البينة ، وإن لم تفد إلا الظن .

التالي السابق


الخدمات العلمية