صفحة جزء
[ ص: 246 ] انقسام الواجب ] الواجب ينقسم بحسب فاعله إلى : واجب على العين ، وواجب على الكفاية : وبحسب ذاته إلى واجب معين ، وواجب مخير ، وبحسب وقته إلى واجب مضيق وواجب موسع ، ويجب فعله في وقته ، وبعد ذلك إلى أداء وقضاء . فنقول : مسألة الواجب المخير إيجاب شيء مبهم من أشياء محصورة ، كخصال الكفارة ، وجزاء الصيد ، وفدية الأذى جائز عقلا . خلافا لبعض المعتزلة حيث ذهب إلى امتناعه عقلا زاعما لزوم اجتماع النقيضين ; لتناقض الوجوب والتخيير جهلا منهم بالفرق بين ما هو واجب ، وما هو مخير على ما سيأتي تحقيقه . وإذا قلنا بجوازه فهو يقتضي وجوب واحد منها لا بعينه ، وأي واحد منها فعل ، سقط الفرض ; لاشتماله على الواجب ، لا أنه واجب ، ولا يوصف الجميع بالوجوب هذا هو الصحيح عندنا ، كما قاله [ ص: 247 ] القاضي أبو الحسين بن القطان وغيره ، ونقله الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن مذهب الفقهاء كافة ، والقاضي أبو بكر عن إجماع سلف الأمة . قال ابن القشيري : ونعني بهذا أن ما من واحد إلا ويتعلق به براءة الذمة ، ولسنا نعني أن الواجب واحد معين في حكم الله ملتبس علينا ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وحكي عن عبد الجبار أيضا ، والثاني : وبه قال المعتزلة : الكل واجب ثم منهم من يقتصر عليه ومنهم من زاد ، وقال : الكل واجب على التخيير والبدل ، وإذا فعل بعضها سقط به وجوب باقيها ، وحكاه القاضي عن الجبائي وابنه وبعض أصحابه وبعض الفقهاء . قال صاحب المصادر " : واختاره الشريف المرتضى . قال الباجي : واختاره ابن خويز منداد من مالكية العراق . قال : وإليه ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة .

والثالث : أن الواجب واحد معين عند الله غير معين عند المكلف ، لكن علم الله أنه لا يختار إلا فعل ما هو واجب عليه ، واختياره معرف ، لنا أنه الواجب في حقه ، وعلى هذا فيختلف بالنسبة إلى المكلفين . حكاه ابن القطان مع جلالته . وقال في المحصول " : إن أصحابنا ينسبونه إلى المعتزلة ، والمعتزلة إلى أصحابنا ، واتفق الفريقان على فساده ، ولذلك قال صاحب المصادر " : لو ذهب ذاهب إلى أن الواجب فيها واحد معين عند الله غير [ ص: 248 ] معين عندنا كان خلافا من جهة المعنى ، وجرى مجرى تكليف ما لا يطاق . هذا مما لا يذهب إليه أحد . انتهى ، وقد علمت فساده .

والرابع : أن الواجب واحد معين عند الله تعالى لا يختلف ، فإن فعله المكلف فذاك ، وإلا وقع نفلا وسقط الواجب به ، وعلى الأول وهو قول الأصحاب ، فهل يتعين بفعل المكلف أو باختياره ؟ وجهان : والأول : حكاه أبو الخطاب الحنبلي في تمهيده " وابن السمعاني في القواطع " ، وأغرب فنسبه إلى الأصحاب . وقال الباجي : إنه قول معظم أصحاب مالك ، والثاني : حكاه أبو يوسف في الواضح " ، فقال : ذهب الفقهاء إلى أن المأمور به واحد ، ويتعين باختيار المكلف ، فكأنهم قالوا : إن الواجب ما في علم الله أن المكلف يختاره . قيل : ويلزم عليه أن المكلف إذا مات قبل الفعل ولم يفعله عنه غيره أن لا وجوب ، وهو خلاف الإجماع . ويجيء قول آخر وهو الوقف ، فإن فعل واحدا منها فهو الواجب ، كما قال أبو إسحاق المروزي : إن مالك النصاب يتخير بين إخراج الزكاة من عين المال ومن غيره ، فإذا أخرجها من عين المال تبين أن الوجوب تعلق بالعين ، وإن أخرجها من غيرها تبينا أنها لم تجب في العين . ويجيء قول آخر : إنه إذا كان أحد الخصال أدون كان هو الواجب ، [ ص: 249 ] فإن فعل الأكمل سقط به ، وهذا كما في زكاة البقر ، فإن خبر معاذ دل على أن الواجب في ثلاثين تبيع أو تبيعة . ونص الشافعي في المختصر " والأصحاب أن الواجب التبيع ، وأنه إذا أخرج التبيعة كان أولى ، وأسقط الواجب ، ويكون متطوعا بالزيادة إلا أن يقال : سبب ذلك قيام الإجماع على أن الواجب في الثلاثين تبيع .

إذا علمت هذا فالكلام بعده في مواضع . أحدها : تحقيق موضع الخلاف . الثاني : هل هو معنوي أو لفظي ؟ . الثالث : في كيفية الثواب والعقاب بالنسبة إلى الجميع أو البعض . الرابع : في شروط التخيير . [ تحقيق موضع الخلاف ] أما الأول : وهو تحقيق موضع الخلاف وتحرير معنى الإبهام ، فأما عندنا [ ص: 250 ] فالواجب أحد الخصال ، ولا تخيير فيه ، وتخيير المكلف إنما هو في تعيين الواجب للوجود لا للوجوب ، فإن الجهة الشخصية لا يتعلق بها وجوب ، ولهذا قال الشافعي : في المئتين من الإبل يتخير بين الأربع حقاق وخمس بنات لبون ; لأنه صلى الله عليه وسلم نطق بالتخيير ، فقال : ( فإذا بلغت مئتين ففيها أربع حقاق . أو خمس بنات لبون ) فأوجب أحدهما وخير في تعيين الواجب .

وقال ابن الحاجب : متعلق الوجوب هو القدر المشترك بين الخصال ، ولا تخيير فيه ، ومتعلق التخيير خصوصيات الخصال ولا وجوب فيها . وقال الأصفهاني شارح المحصول " : لا نقول في الواجب المخير هو القدر المشترك ، بل الواجب هو حصة منه يصدق عليها القدر المشترك . ولا سبيل إلى القول بإيجاب المشترك ، ويكون من صور التخيير بين الخصال الثلاث بأنه واحد ، ولا يتصور التخيير في الواحد ، وأما على قول المعتزلة : يجب الجميع على التخيير ، فظاهره متناقض في نفسه ، إذ معنى وجوب الجميع أنه لا يبرأ إلا بفعلها ، ومقتضى التخيير أن يبرأ بفعل أيها شاء ، ولا يجتمعان ، وإنما مرادهم بوجوب الجميع : أنه لا يجوز ترك الجميع ، وهو صحيح لكن لا يلزم منه وجوب فعل الجميع ، أو وجوب الجميع على البدل لا على الجمع بمعنى إن لم يفعل هذا فعل هذا ، وهو مذهب الجمهور . [ ص: 251 ] وكان الغلط في هذه المسألة : إما من المعتزلة حيث ظنوا أن الوجوب مع التخيير لا يجتمعان ، أو من الناقلين عنهم بأن وافقوهم على عبارة موهمة ، والذي نقله القاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة " عنهم : أن الجميع واجب على البدل .

وقد حرر بعض المتأخرين ذلك فقال : القدر المشترك يقال على المتواطئ ، كالرجل ولا إبهام فيه ، وأن حقيقته معلومة متميزة عن غيرها من الحقائق ويقال على المبهم بين شيئين أو أشياء ، كأحد الرجلين ، والفرق بينهما : أن الأول لم يقصد فيه إلا الحقيقة التي هي مسمى الرجولية .

والثاني فيه أحد الشخصين بعينه ، وإن لم يعين ، ولذلك يسمى مبهما ; لأنه انبهم علينا أمره ، والأول لم يقل أحد : إن الوجوب يتعلق بخصوصياته كالأمر بالإعتاق ، فإن مسمى الإعتاق ومسمى الرقبة متواطئ كالرجل . فلا تعلق للأمر بالخصوصيات لا على التعيين ، ولا على التخيير . فلا يقال فيه : واجب مخير ، ولا يتأتى فيه الخلاف الذي في المخير ، وأكثر أوامر الشريعة من ذلك . والثاني متعلق الخصوصيات فلذلك وقع الخلاف فيه وسمي الواجب المخير . قال : وبهذا تبين أن تزويج أحد الخاطبين ، وإعتاق واحد من الجنس اللذين ذكرهما ابن الحاجب ، وكذا نصب أحد المستعدين للإمامة إذا شغر الوقت عن إمام . الذي ذكره البيضاوي ليس مما نحن فيه ; لأنه مما يتعلق الوجوب فيه بالقدر المشترك من غير نظر إلى الخصوصيات ، وإنما مثاله أهل الشورى الذين جعل عمر الأمر فيهم ; لتعلق الأمر بأعيانهم .

[ ص: 252 ] وقال العبدري في المستوفى " : الخلاف في هذه المسألة إنما وقع من جهة الإجمال الذي في اللفظ ، فإنه يحتمل أن يكون المراد المخير فيه ، وأن يكون المراد المخير في أنواعه إن كان ذا أنواع ، وفي أشخاصه إن كان ذا أشخاص . فيقال : لا شك إن أردت المخير فيه فالعين واحد لا يصح التخيير فيها ، وإن أردت التخيير في أنواعه وأشخاصه ، فأنواع الشيء الواحد بالجنس وأشخاصه يصح التخيير فيها ، وبه ينقطع النزاع ويرتفع الخلاف . قلت : والصواب : أن الخلاف بين الفريقين محقق ، فإن الذي يقتضيه كلام الفقهاء أن الواجب كل خصلة على تقدير عدم الأخرى ، وبه يفترق الحال بينه وبين إعتاق رقبة من الجنس ، والذي تقتضيه قواعد المعتزلة : أن الواجب القدر المشترك بين الخصال ، وهذان معنيان متغايران يمكن أن يذهب لكل منهما قائل . وظهر بذلك أن قول المعتزلة أولى أن يسمى إبهاما ، والفقهاء أولى أن يسمى كل واحد ، والمعتزلة إنما قصدوا الفرار من قولنا : أحدها واجب لعدم جواز التخيير بين الواجب وغيره . وأصحابنا لا يراعون الحسن والقبح ، ويجوزون التخيير بين ما فيه مصلحة وما لا مصلحة فيه ، ومع ذلك جعلوا الواجب مبهما . فإذا نظرنا إلى مجرد ذلك لم يكن فرق في المعنى .

تنبيه : لا يخفى تخصيص الخلاف بما إذا كان كل منهما مطلوبا . أما إذا كان المطلوب في الحقيقة أحدها ، ولم يقصد بالتخيير ظاهره بل التهديد ، فالواجب من ذلك واحد قطعا . ومثاله : قوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا [ ص: 253 ] أتينا طائعين } ونحو هذا { فاصبروا أو لا تصبروا } وغير ذلك ، ولم أر من تعرض له .

[ هل الخلاف لفظي أو معنوي ؟ ] وأما الثاني : وهو أنه هل الخلاف لفظي أو معنوي ؟ اختلف في ذلك ، فقال القاضي والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين : إنه لفظي ، واختاره ابن القشيري ، وابن برهان في الأوسط " ، وابن السمعاني في القواطع " ، وسليم الرازي في التقريب " ، وأبو الحسين البصري في المعتمد " ، والإمام الرازي في المحصول " . قالوا : لا خلاف بين الفريقين لاتفاق الكل على أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، ولا يجوز تركه كذلك ، وأنه إذا أتي بواحد منها كفى ذلك في سقوط التكليف . ولكن مراد المعتزلة أن ما من واحد يفعل إلا يقع واجبا ، وإليه أشار عبد الجبار في العمدة " ، ولهذا لم يصحح الإمام النقل عن أبي هاشم ، وليس كما زعم ، فقد حكاه صاحب المعتمد " وهو القدوة عندهم ، وأصوله تقتضي ما نقل عنه ، وأن الوجوب عنده يتبع الحسن الخاص . فيجب عند التخيير استواء الجميع في الحسن الخاص ، وإلا وقع التخيير بين الحسن وغيره ، وقال صاحب الواضح " : قد أعيت هذه المسألة العلماء من قبل ومن بعد فما أحد تصور الخلاف فيها . [ ص: 254 ]

وفي الجملة فلا خلاف أن المكلف لا يجب عليه أن يأتي بها كلها ، ولا أنه لا يجوز الإخلال في الجميع ، ولا أنه إذا أتى بشيء منها أجزأه ، ولا أنه لا يقع التخيير بين واجب وغيره من مباح أو ندب ، وحينئذ فلا أعرف موضع الخلاف ، وكذا قال صاحب المصادر " : قد دارت رءوس المختلفين في هذه المسألة وأعيتهم ، ولا فائدة لها معنوية للاتفاق على ما ذكر . ا هـ . وقال القاضي أبو الطيب الطبري : بل الخلاف في المعنى ; لأنا نخطئهم في إطلاق اسم الوجوب على الجميع ; لإجماع المسلمين على أن الواجب في الكفارة أحد الأمور ، وقال الأصفهاني : الذي يظهر من كلام الغزالي وابن فورك أن الخلاف معنوي وهو اختيار الآمدي وابن التلمساني ، وعبارة بعضهم تدل عليه . فإنه قال : الأمر بواحد من الأشياء يقتضي واحدا من حيث هو أحدها .

وقال بعض المعتزلة أيضا : الواجب منها واحد معين عند الله وإن وقع غيره وقع نفلا وسقط به الواجب ، ومنهم من قال : الواجب [ أحدها ] ولكن على البدل ، وإذا تقرر ما ذكر من الفرق بين أن تراد مع القدر المشترك الخصوصيات أو لا ، أمكن أن يقال في خصال الكفارة : احتمالان : أحدهما : أن يكون الواجب القدر المشترك بين الخصال . والثاني : أن كل خصلة واجبة على تقدير أن لا يفعل غيرها . [ ص: 255 ]

والأوفق لقواعد المعتزلة الأول ، وهو تعلق الوجوب بالقدر المشترك لا غير حتى يكون هو الموصوف بالحسن . والأوفق لقواعدنا أن يصح ذلك وغيره ، ويظهر أثرها فيما لو فعل خصلة ، فعلى هذا هو الواجب ، وعلى الأول ينبغي أن يقال : الواجب تأدى بها لا أنها هي الواجب . وقال الهندي : الصواب أن الخلاف معنوي ، ويظهر له فوائد في الخارج : إحداها : أنه إذا فعل خصلة يقال على ما اخترناه : إنها الواجب ، وعلى المعنى الآخر يتأدى بها الواجب . الثانية : إذا فعل الجميع معا يثاب على الجميع ثواب الواجب ; لأن كل واحدة لم يسبقها غيرها ، وعلى رأيهم يثاب على واحدة فقط ، كذا نقل الإمام في البرهان " والآمدي عنهم وكأنهم يعنون ثواب الواجب . الثالثة : إذا ترك الجميع ، وقلنا : للإمام المطالبة بالكفارات أجبر على فعل واحد منها من غير تعيين على رأينا ، كما نقول : القاضي يكره المولي على أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق ، وأما على رأيهم فينبغي أن يجبره على واحد بعينه هذا ما ظهر لي ، ولم أره منقولا . [ ص: 256 ]

الرابعة : مات وعليه الكفارة المخيرة ولم يوص بإخراجها ، وعدل الوارث عن أعلى الأمور أي العتق ، فوجهان . أصحهما : الجواز . قال الماوردي : ويشبه أن يكونا مخرجين من الخلاف المذكور إن قلنا : إن الجميع واجب فله إسقاط الوجوب بإخراج واحد ، وإن قلنا : أحدها لا بعينه لم يجزئ ; لأنه لم يتعين في الوجوب ، وهذا فيه نظر ، فقد يقال بمثله عند فعل أدناها إذا لم يتعين أيضا ، وإن كان وجه عدم الإجزاء عدم التعيين لم يختص بالعتق ، وإن كان العدول إلى الأعلى مع إمكان براءة الذمة بالأدنى فهذا مأخذ غير ما نحن فيه ، وأيضا التصرف عن الميت لا ضرورة به إلى فعل ما لا إثم في تركه ، وإن وصفناه بالوجوب . الخامسة : لو أوصى في الكفارة المخيرة بخصلة معينة وكانت قيمتها تزيد على قيمة الخصلتين الباقيتين ، فهل يعتبر من رأس المال ؟ فيه وجهان . أحدهما : نعم ; لأنه تأدية واجب ، وهذا هو قياس كون الواجب أحدها . وأصحهما : اعتباره من الثلث ; لأنه غير متحتم ، وتحصل البراءة بدونه ، وهما مبنيان على هذا الخلاف . فإن قلنا : الكل واجب فالجميع من رأس المال ، وإن قلنا : الواجب مبهم فالزائد من الثلث ويطرقه النظر السابق . السادسة : حلف لا مال له ، وقد جنى جناية موجبة للقصاص ، فإن قلنا : الواجب القصاص عينا لم يحنث ، وإن قلنا : الواجب أحدهما لا بعينه حنث ، كما قاله الرافعي وتوقف فيه . [ ص: 257 ]

السابعة : لو جنى على المفلس أو على عبده ، وقلنا : الواجب أحد الأمرين وأن في المخير يجب الجميع ، فليس له القصاص ، وإن قلنا : بالآخر كان له . الثامنة : إذا طلق إحدى امرأتيه أو أعتق أحد عبديه ، إن قلنا الواجب مبهم ، فالطلاق وقع مبهما ، فلا يقع إلا عند التعيين ، وإن قلنا : وقع على كل واحدة فمن حين اللفظ وهو الصحيح . التاسعة : تيمم قبل الاستنجاء لا يجزئه على الأصح ; لأنه مأمور بأحد الأمرين ، الحجر أو الماء ، ويجب عليه لأجل وجوب الماء الطلب ، فيبطل تيممه ، إذ لا تيمم مع وجوب الطلب .

[ كيفية الثواب والعقاب ] وأما الثالث : فقال القاضي : من حجج أصحابنا قولهم : إنه لو أقدم على الخصال الثلاث في الكفارة معا ، ويتصور ذلك بأن ينصب في تأديتها وكلاء ، فتتفق أفعالهم في وقت واحد ، فقد قالوا : أجمع أنها إذا وقعت فالواجب منها واحد . وانفصل أبو هاشم عن هذا بناء على أصله بأن ما اتصف بالوجود لا يتصف بالوجوب ، فإن الوجوب من أحكام التكليف ، ولا يتعلق التكليف بالشيء مع حدوثه ، وإنما يتعلق به قبل حدوثه ; لأن القدرة قبيل الاستطاعة عنده . [ ص: 258 ] ورده القاضي بأنه لو لم يصفها بالوجوب عند الوجود فنقول : في كل ما وجب قبل حدوثه إذا حدث أنه كان واجبا ، وإذا وجدت الخصال الثلاث في الكفارة فلا يمكن أن يقول : كلها واجبة حتى يثاب على كل واحد منها ثواب الواجب . وما نقله القاضي عن أصحابنا من أن الواجب واحد إذا أتي بالجميع منتقد ، فقد قال ابن برهان في الأوسط " : عندنا أنه إذا فعل الجميع أثيب ثواب أعلاها ، فإن امتنع من الكل أثم بترك أدناها .

وقال القاضي أبو الطيب محققا لذلك : يأثم بمقدار عقاب أدناها ، لا أنه نفس عقاب أدناها . وقال ابن السمعاني في القواطع " نحوه ، فقال : قال أصحابنا : إذا فعل الجميع فالواجب أعلاها ; لأنه يثاب على جميعها ، وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب ، فانصرف الواجب إلى أعلاها ; ليكثر ثوابه ، وإن ترك الجميع عوقب على أدناها ليقل وباله ووزره ; لأن الوجوب سقط بفعل الأدنى . انتهى . وظن بعضهم تفرد ابن السمعاني بذلك ، وقال : إنما هذا قول القاضي أبي بكر . قلت : وقد سبق موافقة ابن برهان له والقاضي أبي الطيب ، وقاله ابن التلمساني في شرح المعالم " : فقال : إذا أتى بالخصال معا فإنه يثاب على كل واحد منها لكن ثواب الواجب أكثر من ثواب التطوع ، ولا يحصل إلا على واحد فقط ، وهو أعلاها إن تفاوتت ; لأنه لو اقتصر عليه لحصل له ذلك ، فإضافة غيره إليه لا تنقصه ، وإن تساوت فإلى أحدها ، وإن ترك الجميع عوقب على أقلها ; لأنه لو اقتصر عليه لأجزأه . [ ص: 259 ] قلت : وهذا نظير القول المحكي في الصلاة المعادة أن الفرض أكملها ، والقول بأنه إحداهما لا بعينها ، والله يحتسب ما شاء منهما نظير القول الذي حكاه القاضي أولا عن أصحابنا ، وحكوا هناك وجها : أن كليهما فرض ، ولم يقولوا به هنا ، لئلا يؤدي إلى قول المعتزلة ، وحكى القاضي قولا ثالثا : أن الذي يقع واجبا هو العتق ، فإنه أعظم ثوابا ; لأنه أنفع وأشق على النفوس ، ورد عليه بأنه قد لا يكون كذلك ، وقد يجيء فيما سبق قول رابع : أنه لا يثاب ويعاقب إلا على أحدها ; لأنه الواجب لا بعينه . ويجيء خامس : أنه يثاب ثواب الواجب على أدناها ; لأنه لو اقتصر عليه أجزأه ، وعلى الثاني ثواب التطوع ، وهذا هو ظاهر نص الشافعي فيما نقله المتولي في كتاب النذر فيما إذا التزم في اللجاج ، فقال : وإن كان الملتزم من جنس ما يجزئ في الكفارة ، فإن اقتصر على القدر المأمور به في الكفارة أجزأه ، وإن وفى بما قال كانت الزيادة عليه تطوعا . نص عليه . ا هـ .

وقال أبو الحسين في المعتمد " : قال شيوخنا : يستحق الذم والعقاب على أدونها عقابا ; لأنه لو فعله لم يعاقب . قال : لكنه يستحق ذلك على الإخلال بأجمعها لا بواحد منها . قالوا : وإذا فعلها استحق ثواب الواجب على أعظمها ; لأنه لو فعله [ ص: 260 ] وحده لكان واجبا ، ولا يستحق عليه ذلك الثواب ، وقال صاحب المصادر " : إذا ترك الكل استحق مقدارا واحدا من العقاب على ترك الكل بمعنى أنه ترك ثلاث واجبات عليه على التخيير ، ولا يصح أن يقال : يعاقب على أدناها ; لأنه إذا ترك الكل يضاعف عذابه ، فلا يكون هناك مقادير من العقاب بعضها أعلى وبعضها أدنى بخلاف ما إذا جمع بين الكل ; لأن هناك يتضاعف الثواب ، فيستحق على كل واحد ثوابا ، فيصح أن يقال : يثاب على أعلاها ، وقال المازري : إذا فعل الجميع ، فاختلف في الذي يتعلق به الوجوب منها ، فقيل : أعلاها ، وهو رأي القاضي أبي بكر ، وأشار عبد الجليل إلى مناقشة في هذا ، فقال القاضي : يقول : إن جمع بينهما في الترك ينطلق الإثم بأدناها ، فيجب عليه أن يقول : إذا جمع بينهما في الفعل تعلق الوجوب أيضا بأدناها ، ومنهم من قال : الوجوب يتعلق بواحد لا بعينه . انتهى . وما ناقض فيه عبد الجليل مردود ، فقد سبق في كلام ابن السمعاني توجيه الفرق . [ ص: 261 ]

تنبيهان [ التنبيه ] الأول قال في المحصول : إنه يستحب الجمع بين خصال الكفارة . ويشهد له استحباب إعادة الصلاة لمن صلاها بل أولى ; لأن . [ التنبيه ] الثاني : هذا كله إذا فعل الكل في وقت واحد ، فلو أتى بالكفارة المخيرة على الترتيب ، فقال الباجي وغيره : الأول هو الواجب ، وقد يقال : لا تقع الثانية عن الكفارة ، وقد يقال : بالوقوع كمن صلى على الجنازة ثانيا ، وقد يقال باحتمال ثالث : إنها إن اقترنت بمعنى يقتضي الطلب وقعت عن الكفارة ، ثم هل تكون واجبة ؟ يمكن تخريجه على الصلاة المعادة ، وفيها أربعة أوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية