صفحة جزء
[ ص: 221 ] مسألة [ إنكار الشيخ ما حدث به ] إذا روى ثقة عن ثقة حديثا ، ثم رجع الشيخ فأنكره ، فله حالان : أحدهما : أن يكذب الراوي عنه صريحا كقوله : كذب علي ما رويت له هذا قط . فالمشهور عدم قبول الحديث ، وذكر إمام الحرمين أن القاضي عزاه للشافعي . قال ابن السمعاني في " القواطع " : إنه الذي عليه الأصحاب ، وسواء كان الفرع جازما بالرواية عنه أو لم يكن . ويصير كتعارض البينتين ، فيرد ما جحده الأصل ; لأن الراوي عنه فرعه ; ولأن كل واحد منهما مكذب للآخر فيما يدعيه ، فلا بد وأن يكون أحدهما كاذبا قطعا ، لكن لا يثبت كذب الفرع بتكذيب الأصل له في غير هذا الذي رواه ، بحيث أن يكون ذلك جرحا للفرع ; لأنه أيضا يكذب شيخه في نفيه ذلك ، وليس قبول جرح أحدهما بأولى من الآخر ، فتساقطا .

ويرد من حديث الفرع ما نفى الأصل تحديثه به خاصة ، ولا يرد من حديث الأصل نفسه إذا حدث به ، كما قال القاضي أبو بكر فيما حكاه عن الخطيب البغدادي ، وكذا إذا حدث به فرع آخر ثقة عنه ، ولم يكذبه [ ص: 222 ] الأصل فهو مقبول ، ونقل الهندي وغيره الإجماع في هذه الحالة على الرد ، وليس كذلك ، بل في المسألة مذهبان . أحدهما : التوقف ; لأنه تعارض أمران ، قطع المنقول عنه بكذب الراوي ، وقطع الناقل بالنقل ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، وهو ظاهر كلام ابن الصباغ في " العدة " ونقله ابن القشيري عن اختيار القاضي أبي بكر ، واختاره إمام الحرمين . ونقل عن القاضي أنه قطع بالرد في هذا الموضع ، ونازعه ابن القشيري ، وقال : الذي التزمه القاضي في " التقريب " التوقف ، وهو عين ما اختاره الإمام . قال : وهذا كخبرين تعارضا ، فإما أن يتساقطا أو يرجح أحدهما إن أمكن .

قلت : روى الخطيب في " الكفاية " بإسناده عن القاضي مثل ما نقله إمام الحرمين ، وعابه القاضي في " التقريب " . فأما إذا قال : أعلم أني ما حدثته ، فقد كذب ، فليس قبول جرح شيخه له أولى من العكس . فيجب إيقاف العمل بهذا الحديث ، ويرجع في الحكم إلى غيره ، ويجعل بمثابة ما لم يرد ، اللهم إلا أن يرويه الشيخ مع قوله : إني لم أحدث به هذا الراوي عني ، فيعمل فيه بروايته دون روايته عنه . ا هـ . والثاني : أن تكذيب الأصل للفرع لا يسقط المروي ، ولهذا لو اجتمعا في شهادة لم ترد ، وهذا ما اختاره أبو الحسين بن القطان كما رأيته في كتابه . وأبو المظفر بن السمعاني في " القواطع " . قال ابن القطان : وهو مخالف للشهادة من هذا الوجه ; لأن أمر الشهادة متعلق بقوله ، بخلاف الخبر ، وجزم به الماوردي ، والروياني أيضا فقالا : لا يقدح ذلك في صحة الحديث إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل . [ ص: 223 ] الحالة الثانية : أن ينكره فعلا بأن يعمل بخلاف الخبر ، فإن كان قبل الرواية ، فلا يكون تكذيبا بوجه ; لأن الظاهر أنه تركه لما بلغه الخبر ، وكذلك إذا لم يعلم التاريخ حمل عليه تحريا لموافقة السنة .

وأما إذا كان بعد الرواية ، نظر فيه فإن كان الخبر يحتمل ما عمل به بضرب من التأويل لم يكن تكذيبا ; لأن باب التأويل في الأخبار غير مسدود ، لكن لا يكون حجة ; لأن تأويله برأيه لا يلزم غيره ، وإن كان الخبر لا يحتمل ما عمل به فهو مردود ، هكذا قال ابن الأثير في " شرح مسند الشافعي " . واعلم أن هذا التفصيل لأبي زيد الدبوسي ، وقياس مذهبنا أنه لا يرد به مطلقا . الحالة الثالثة : أن ينكره تركا ، فإن امتنع الشيخ من العمل بالحديث ففيه دليل على أنه لو عرف صحته لما امتنع من العمل به ، فإنه يحرم عليه مخالفته مع العلم بصحته ، وله حكم الحالة الثانية . الحالة الرابعة : أن لا يصرح الأصل بتكذيبه ، ولكن شك أو ظن ، أو قال : لا أذكره أو لا أعرفه ، ويغلب على ظني أني ما حدثتك ، والفرع جازم به . فهاهنا توقف القاضي فيما نقله عنه الخطيب في الكفاية ، والجمهور على عدم التوقف ، وهو الذي رأيته في " التقريب " للقاضي . واختلفوا هل يكون الحكم للفرع الذاكر ، أو الأصل الناسي ؟ فيه قولان ، فذهب أصحابنا إلى الأول ، ووافقنا محمد بن الحسن ، وأن نسيان الأصل لا يسقط العمل بما فيه . قال القاضي : وهو مذهب الدهماء من العلماء والفقهاء من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة [ ص: 224 ] وهذا يشترط أن يكون في نفسه تاركا له ، وأن يكون الراوي الناسي لما رواه وقت روايته بصفة من يقبل خبره ، وقال سليم في " التقريب " : هو قول أصحاب الحديث بأسرهم ، وبعض الحنفية ، وقال ابن القشيري : هو ما اختاره القاضي وادعاه مذهب الشافعي . قال : وأطلق الشافعي القول بقبول الحديث وإيجاب العلم به . وقال القاضي : فيه تفصيل ونزل عليه كلام الشافعي ، وذهب الكرخي والرازي وأكثر الحنفية إلى أنه لا يقبل ، ولهذا ردوا خبر { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها } الخبر ; لأن راويه : الزهري قال : لا أذكره ، وكذا حديث سهيل بن أبي صالح في الشاهد واليمين .

وذكر الرافعي في باب الأقضية أن القاضي ابن كج حكاه وجها عن بعض الأصحاب ، ونقله شارح " اللمع " عن اختيار القاضي أبي حامد المروروذي ، وأنه قاسه على الشهادة ، وحكي عن بعض أصحابنا أنه يجوز لكل أحد أن يرويه إلا الذي نسيه ، فإنه يسقط في حقه ، وليس له أن يرويه عن المروي عنه ، لأنه فرع ، وستأتي هذه المسألة . لنا أن الراوي عدل جازم بالرواية ، فيجب العمل لحصول اليقين ، وتوقف الشيخ ليس بمعارض ، بل يجب على الشيخ أن يقول : حدثني فلان عني ، ويعمل به . قال القرافي : فإن قيل : هلا حملتم النسيان على الكلامي وتعريفهم ؟ قيل له : النسيان لم يقع منه ، وهو ظاهر العدالة . [ ص: 225 ] قال العلماء : ولأجل هذا الخلاف كره جماعة الرواية عن الأحياء ، منهم الشعبي ، وعبد الرزاق ، والشافعي ، حكاه الخطيب في " الكفاية " ، وذكر البيهقي في " المدخل " أن ابن عبد الحكم روى عن الشافعي حكاية ، فأنكرها الشافعي ، ثم ذكرها ، وقال : لا تحدث عن حي ، فإن الحي لا يؤمن عليه النسيان . وفصل أبو زيد الدبوسي بين أن يكون الأصل يغلب عليه النسيان ، واعتاد ذلك في محفوظاته ، فيقبل ، وإن كان رأيه يميل إلى جهله أصلا بذلك الخبر رده .

وفصل إلكيا الطبري منا بين أن لا يكون هناك دليل يستقل ، فإن التردد وإن لم يعارض قطع الراوي ، لكنه يورث ضعفا . فيصير بمثابة خبرين يتعارضان ، وأحد الراويين أوثق ، فإن معارضة الثاني له تخرجه عن أحد الأدلة المستقلة ، وإن وجدنا وراءه دليلا مستقلا ، فهو أولى ، فإن ما في أحد الحديثين من مزيد وضوح لا يستقل دليلا . قال : وهذا حسن جدا إلا أنا سنذكر ترددا في أن مزية الحديث أولى بالاعتبار أو القياس ، ويضطرب الراوي فيه ، سيما إذا كان القياس جليا كالذي يقررونه في مسألة النكاح بغير ولي . فإن قيل : إذا لم يكن معكم خبر مستقل في تلك المسألة ، فعلى ماذا تعتمدون ما رواه ؟ فقيل : روي الخبر الذي تردد فيه الزهري من طريق [ ص: 226 ] آخر غير طريق الزهري . قال : وكان إمام الحرمين يرى الخبر دليلا مستقلا ، مع تردد الشيخ ، ولكن كان يرى إذا قطع الشيخ بالرد أن ذاك يمنع قبول روايته . قال إلكيا : ومن لم يسلك الطريق الذي سلكناه لا يعدم من التعرض على ما ذكره الإمام كلاما مخيلا ، فإن قطع النافي قد لا يعارض قطع المثبت ، فمن الممكن أنه رواه ، ثم نسي ، وظهر عنده أنه لم يرو .

تنبيهات . الأول : يجوز للراوي في هذه الحالة أن يرويه عن الأصل ، بخلاف ما قبلها . قاله الماوردي و الروياني . الثاني : هذا كله في أن الغير : هل يجوز له أن يعتمده ; لأنه الطريق له ؟ وقد تمسك الشافعي برواية سليمان بن موسى عن الزهري ، مع قول الزهري : لا أدري .

التالي السابق


الخدمات العلمية