صفحة جزء
[ شرط صحة الرواية عن الشيخ ] قال إمام الحرمين : وشرط صحة الرواية عن الشيخ أن يكون الشيخ عالما بقراءة القارئ عليه ، ولو فرض منه تحريف أو تصحيف لرده عليه ، ويلتحق به ما لو كان بيده نسخة مهذبة ، فلو كانت بيد غير الشيخ ، والأحاديث تقرأ ، وذلك الغير عدل مؤتمن ، لا يألو جهدا في التأمل فتردد فيه جواب القاضي ، وبعد مدة ظهر لي أن ذلك لا يصح ; لأن الشيخ ليس على دراية منه ، فلا ينتهض منها تحملا . قال : فإن كان الشيخ لا يحيط بالأخبار ، ولا ينظر في نسخة متميزة ، ولو فرض التدليس عليه لما شعر ، لم تصح الرواية عنه ، وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتا وأجراسا لا يأمن تدليسا وإلباسا ، وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه . قال أبو نصر بن القشيري : وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي ، فإنه صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل ، وإن لم يعرف معناه ، ويصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه ، وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث ، وكيف لا وفي الخبر { رب حامل فقه غير فقيه ورب [ ص: 313 ] حامل فقه إلى من هو أفقه منه } .

ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه ، ويسد بذلك باب التحديث . وبالجملة فمدار الأخبار على غلبة الظن ، فإذا قرئ بين يدي الصبي والأمي أخبار على شيخ ، فتحملها هذا السامع ، وقرئت عليه ، وتحملت عنه اكتفي بذلك ، واشتراط النظر في النسخة ، ودراية الصبي يضيق البطان في الرواية ومن كلام الإمام أن المعتبر في صفة تحمل الرواية هو المعتبر في صفة تحمل الشهادة وهذا محل النظر . وقد صرح الإمام بجواز الإجازة والتعويل عليها ، وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز ، وقد وافق إمام الحرمين على أن شرط صحة الرواية العلم بما يقرأ وعليه إلكيا الطبري ، والمازري في " شرح البرهان " .

قال المازري : بشرط كون الشيخ عالما بصحة ما قرئ عليه ، غير غافل عن شيء منه ، فأما إذا قرأ من حفظه وأملى من حفظه فلا شك أنه على ثقة . وقد اجتاز بعضهم للحفاظ أن يكون بين أيديهم كتبهم استظهارا للثقة واحتياطا ، فإن كان لا يعول على حفظه ، وإنما يعول على كتابه نظر ، فإن تحقق سماع جميع ما في كتابه فظاهر ، وإن علم سماعه ولكن نسي ممن سمعه ، فذكر القاضي أبو بكر فيه خلافا في جواز الرواية لما في هذا الكتاب ، وذهب إلى أنه لا يروي رواية معمولا بها ; لأن هذا ممن سمع منه الكتاب مع عدالته وإنما عول على ظن وتخمين وكذب . وذكر القاضي أن الشافعي أوصى في رسالته بقبول مثل هذه الرواية لأنه قال : لا يحدث المحدث من كتابه ، حتى يكون حافظا لما فيه . [ ص: 314 ] وهذا يقتضي أنه إنما أشار إلى من جهل شيخه الذي سمع منه الكتاب ; لأنه لو علم شيخه الذي حدثه بالكتاب لم يشترط حفظه إياه ; لأن من علم شيخه الذي حدثه به ، وعلم بأنه حدثه للجميع ، فإنه لا يشترط أن يكون حافظا لما في كتابه ، وهذا الذي تأوله القاضي على الشافعي تأوله غيره على غير هذا الوجه ، وسيأتي .

وقال ابن فورك : إن روى من كتابه ما لم يذكره ويعلم أنه أصله ، ففيه وجهان : أحدهما : لا يقبل ; لأنه لا بد وأن يكون كاذبا ، والثاني يقبل عملا بالظاهر . وقال القاضي عياض في " الإلماع " : اختلف في العمل بما وجد في الخط المضبوط المحقق لإمام إذا عمل به ، مع اتفاقهم على منع النقل والدراية به ، فمعظم المجتهدين والفقهاء لا يرون العمل به ، وحكي عن الشافعي جواز العمل ، وقال به طائفة من نظار أصحابه ، وهو الذي نصره الجويني وغيره ، وهو مبني على مسألة العمل بالمرسل . وحكى أبو الوليد الباجي أنه روي عن الشافعي أنه يجوز أن يحدث بالخبر من حفظه ، وإن لم يعلم أنه سمعه . قال : وحجته أن حفظه لما في كتابه ، كحفظه لما سمعه ، فجاز له أن يرويه . قال القاضي : ولا نور ولا بهجة لهذه الحجة ، ولا ذكر هذا عن الشافعي أحد من أصحابه ، ولعله ما قدمناه عنه من العمل به ، لا الرواية ، والله أعلم .

أو يكون إنما أراد أنه وجده بخطه ، وإن لم يحقق سماعه ، وهي مسألة مشهورة . ا هـ . واختار المازري أنه إذا تحقق سماعه وجهل عين المسمع التحق بالمرسل ، [ ص: 315 ] وإن كان الشيخ سمع الجميع ، ولكنه لا يحفظه ، ولا يذكر سماعه لعين كل لفظ ، فإن له أن يرويه ، ويجب العمل به ، وإن لم يذكر السماع وإنما عول على خطه كما جرت عادة المحدثين في الطبقات فاختلف الأصوليون فيه . فحكى عبد الوهاب عن أبي حنيفة أنه لا يرى العمل به ، وأن ذلك قضية أصول مالك . وأشار إلى تخريجها على منع الشاهد من شهادة أمر لم يذكره ، وإنما عول على خطه ، فلا يعمل بها . وعن الشافعي أنه جوزه ، كقوله في " الرسالة " : إنه لا يحدث المحدث بما في كتابه إلا أن يكون حافظا له ، وبه قال أبو يوسف : ومحمد بن الحسن .

وإن كان الخط ليس بيده ، وإنما هو بخط غيره ، كان ذلك أولى ، وإن قلنا : يعول ثم ، فلا يصح أن يروي هذا الكتاب ويطلق الرواية عن شيخه بأنه حدثه ; لأنه كذب أنه سمع ، وعلم ثقة الكتاب ، فاختلفوا في قبول هذه الرواية ، والمحدثون يقبلونها . قال المازري : والذي أراه في ذلك أنه إن قلنا : لا يعول على خط نفسه ، ففي خط غيره أولى ، وإن قلنا : يعول ثم ، فلا يصح أن يروي هذا الكتاب ويطلق الرواية عن شيخه ، بأنه حدثه ; لأنه كذب وتلبيس ، بل يبين حقيقة الحال ، فيقول : أخذت هذا الكتاب عن فلان لا شفاها ، ولكن تعويلا على خط فلان أني سمعته معه عن فلان ، وخط فلان أتحققه ، وأتحقق عدالته ، فيقبل حينئذ ، ولا يفتقر هنا إلى إذن الكاتب أن ينقل ذلك عنه ، كما يفتقر إلى إذن الشاهد في أن ينقل عنه شهادته ، إذا تحققنا هنا أن هذا ما وضع خطه عن لبس . [ ص: 316 ]

وأما إن لم تكن نسخة الكتاب بيده ، لكنها كانت بيد قارئ موثوق به ، فإن القاضي أبا بكر تردد في العمل بهذا الخبر ، وصحة إسناده ، والأظهر عنده أنه لا يقبل ; لأنه لم يحصل الشيخ على يقين من صحة ما حملوه التلامذة ، وخالفه المازري ، وقال : إن الشيخ يصير معولا فيما يرويه ويحمله لتلامذته على نقل غيره عنه ، أنه روى كذا . ا هـ . وقطع ابن القشيري فيما إذا تحقق سماعه ، وجهل عين المسمع ، أنه لا يحل له روايته ، حتى يعلم قطعا من بلغه ، ونقله عن اختيار القاضي ، وحكى عن بعض الأصوليين أنه جوز له روايته ، وعزي إلى الشافعي . وقال ابن السمعاني : ينبغي لمن لم يحفظ الحديث روايته من الكتاب ، وإن كان يحفظه فالأولى ذلك اتفاقا ، وإن لم يحفظ وعنده كتاب فيه سماعه بخطه ، وهو يذكر سماعه للخبر ، جاز أن يرويه ، وإن لم يتذكر سماعه ، فهل يجوز أن يرويه ؟ فيه وجهان : أحدهما : يجوز ، وعليه يدل قول الشافعي في " الرسالة " . والثاني : لا يجوز وهو الأصح ، لأنا لا نأمن أن يكون روى على خطه . قال : ولا بد من شيئين في الرواية من الكتاب : أحدهما : أن يكون واثقا بكتابه ، سواء كان بخطه أو خط غيره . والثاني : أن يكون ذاكرا لوقت سماعه ، فإن أخل بواحد منهما لم يصح سماعه . ا هـ .

وما صححه من المنع عند عدم الذكر صححه إلكيا الطبري ، والشيخ أبو إسحاق . قال : لأن الخط قد يشتبه بالخط . [ ص: 317 ] وقال ابن دقيق العيد : إذا لم يتذكر سماعه ، بل وجده بخطه أو بخط شيخه ، أو خط موثوق به ، فهل تجوز الرواية به ؟ ثم نقل عن جماعة من أئمة الحديث المنع ، والذي استقر عليه عمل المحدثين جواز ذلك إذا لم يظهر قرينة التغيير ، لكن الضرورة دعت إلى ذلك بسبب انتشار الأحاديث والرواية انتشارا يتعذر معه الحفظ لكله عادة ، واللازم أحد أمرين : إما أن يعتمد على الظن كما ذكرناه ، وإما أن يبطل حمله من السنة ، أو أكثرها ، والثاني : باطل ; لأنه أعظم مفسدة من البناء على الظن ، فوجب دفعه درءا لأعظم المفسدتين ، ثم منهم من يتحرى بزيادة شرط آخر ، وهو أن لا يخرج الكتاب عن يده بعارية أو غيرها ، وهو احتياط حسن ، وكان المتقدمون إذا كتبوا أحاديث الإجازة إلى غائب عنهم يختمونه بالخاتم ، إما كلهم أو بعضهم . ا هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية