صفحة جزء
[ حكم العمل بالمرسل ] ذهب الجمهور إلى ضعفه ، وسقوط الاحتجاج به . ونقله مسلم في صدر صحيحه عن قول أهل العلم بالأخبار لاحتمال سماعه من بعض التابعين ، أو ممن لا يوثق بصحبته . وقال بقبوله مالك وأبو حنيفة ، وكذا أحمد في أشهر الروايتين عنه ، وجمهور المعتزلة ، منهم أبو هاشم ، واختاره الآمدي ، ثم غال بعض القائلين بكونه حجة فزعم أنه أقوى من المسند ، لثقة التابعي بصحته في إرساله . وحكاه صاحب " الواضح " عن أبي يوسف ، وغال بعض القائلين بأنه ليس بحجة ، فأنكر مرسل الصحابة إذا احتمل سماعه من تابعي . قال الآمدي : وفصل عيسى بن أبان ، فقبل مراسيل الصحابة ، والتابعين ، وتابعي التابعين ، ومن هو من أئمة النقل مطلقا دون من سواهم . [ ص: 341 ] وكذا نقله عنه أبو الحسين في " المعتمد " ، والسرخسي في " عيون المسائل " ، وقال : إنما يعني به إذا حمل الناس عنه العلم ، وجب قبول مرسله ، وقال بعضهم : أراد ابن أبان بحمل أهل العلم قبولهم منه ، لا على السماع . قال : ومن حمل الناس عنه الحديث المسند ، ولم يحملوا عنه المرسل ، فمرسله موقوف . ا هـ .

وهذا هو اختيار ابن الحاجب حيث قال : إن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا ، لنا أنه لو قبل الحديث بلا إسناد لفسد الدين ، ولذلك قال ابن المبارك لولا الأسانيد لقال من شاء ما شاء ; ولأن الراوي قد يرسل عمن هو مقبول عنده ومجروح عند غيره . فلا بد من القسم . ألا ترى أن التعديل للحاكم لا إلى غيره . فكل العدالة إنما هي على ما عند المروي له ، لا على ما عند الراوي ; لأن مذاهب الناس مختلفة في الجرح والتعديل . هذا أبو حنيفة يقول : ما رأيت أحدا أكذب من جابر الجعفي ، ما التبست عليه مسألة إلا قال : حدثني ، وما رأيت أحدا أصدق من عطاء الخراساني ، والحارث الأعور ، وكانا عند غيره من الضعفاء ، وبهذا الطريق لم يقبل شهادة شهود الفرع من المجاهيل إلا أن يعينوا أساميهم ، فيبحث عن أحوالهم . فإن قيل : الشهادة مخصوصة بالاحتياط ؟ قلنا : فيما يرجع إلى العدالة سواء . وأما كلام المحدثين ، فقال ابن عبد البر : لا خلاف في أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير محترز ، يرسل عن غير الثقات [ ص: 342 ] قال : وهذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار ، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف ، أو عبد الله بن عامر بن ربيعة ، ومن كان مثلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك من دون هؤلاء كسعيد بن المسيب ، وسالم بن عبد الله ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، والقاسم بن محمد ، ومن كان مثلهم . وكذلك علقمة ومسروق [ ص: 343 ] بن الأجدع ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، ومن كان مثلهم الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم ، ونحوه مرسل من هو دونهم ، كحديث الزهري ، وقتادة ، وأبي حازم ، ويحيى بن سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيسمى مرسلا ، كمرسل كبار التابعين . وقال آخرون : حديث هؤلاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يسمى منقطعا ; لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين . انتهى .

وهذا التمثيل في بعضه مناقشة ، فإن ابن شهاب الزهري ذكر أنه من صغار التابعين ، ومع ذلك قد سمع من الصحابة أنس بن مالك ، وأشهب بن سعد ، والسائب بن يزيد ، وسنين أبا جميلة ، وعبد الرحمن بن أزهر [ ص: 344 ] وربيعة بن عباد بكسر العين وتخفيف الباء الموحدة - ومحمود بن الربيع ، وعبد الله بن ثعلبة بن صعير - بضم الصاد وفتح العين المهملتين - وأبي الطفيل ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة ، وأبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف - بضم الحاء - ورجلا من بلي ، - بفتح الباء الموحدة وكسر اللام - ، وكلهم صحابة ، واختلفوا في سماعه من ابن عمر ، فأثبته علي بن المديني ، ونفاه الجمهور . وأما قتادة فسمع أنسا ، وعبد الله بن سرجس ، وأبا الطفيل ، وهم صحابة ، وأما يحيى بن سعيد ، فسمع أنسا ، والسائب بن يزيد ، وعبد الله بن عامر ، وربيعة ، وأبا أمامة أسعد بن سهل بن حنيف . فلا تصح دعواه : أنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين . وتمثيل أبي عمرو أولا بأبي أمامة بن سهل ، وبعبد الله بن عامر ، وأنهم من كبار التابعين لا يتجه لما صرحوا به من كونهما من الصحابة ، كما نقلناه . إلا أن عبد الله بن عامر مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وله أربع سنين ، أو خمس . ولهذا ما أخرجا حديثه في الصحيحين ، إنما رويا له عن أبيه عامر ، وعن عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعائشة ، وروى له أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 345 ] وأبو أمامة ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو سماه ، وروى له النسائي ، وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والبخاري ، ومسلم وغيرهما عن الصحابة ، وهو صحابي صغير .

وكذا عبد الله بن عامر ، ومحمود بن الربيع ، وأبو الطفيل والسائب بن يزيد ، فجعل ابن عبد البر أبا أمامة ، وعبد الله بن عامر تابعيين ، والصحيح أنهما من الصحابة . قال أبو عمر : وأصل مذهب مالك وجماعة من أصحابه أن مرسل الثقة تجب به الحجة ، ويلزم به العمل ، كما تجب بالمسند سواء . قال : ما لم يعترضه العمل الظاهر بالمدينة . والثاني : قال : - وبه قال طائفة من أصحابنا - مراسيل الثقات أولى ، واعتلوا بأن من أسند لك ، فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ، ومن أرسل من الأئمة حديثا مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته . قال : والمشهور أنهما سواء في الحجة ; لأن السلف فعلوا الأمرين . قال : وممن ذهب إليه أبو الفرج عمر بن محمد المالكي ، وأبو بكر الأبهري ، وهو قول أبي جعفر الطبري . وزعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ، فإنه لم يأت عنهم إنكاره ، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين ، كأنه يعني أن الشافعي أول من أبى قبول المرسل . وليس كما زعم ، فلا إجماع سابق ، ففي مقدمة صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين ، وكان من الثقات المحتج بهم في الصحيحين . وفيه أيضا عن ابن سيرين أنه قال : كانوا لا يسألون عن الإسناد ، فلما وقعت الفتنة ، قالوا : سموا لنا رجالكم ، فننظر إلى أهل السنة ، فنأخذ [ ص: 346 ] عنهم ، وإلى أهل البدع فلا نأخذ عنهم .

ونقل الحافظ أبو عبد الله الحاكم أن المرسل ليس بحجة عن إمام التابعين سعيد بن المسيب ، ومالك بن أنس ، وجماعة من أهل الحديث ، ونقله غيره عن الزهري والأوزاعي ، وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك ، وغيره . والثالث : أنه حجة يعمل به ، ولكن دون المسند ، كالشهود يتفاوتون في الفضل والمعرفة ، وإن اشتركا في العدالة . قال : وهو قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق بن خويز منداد المالكي البصري .

والرابع : أنه لا يحتج به ، بل هو مردود ، ونقله عن سائر أهل الفقه ، وجماعة من أصحاب الحديث في كل الأمصار للإجماع على الحاجة إلى عدالة المخبر ، وأنه لا بد من علم ذلك . قال ابن عبد البر : ثم إني تأملت كتب المناظرين من أصحابنا وغيرهم . فلم أر أحدا منهم من خصمه إذا احتج عليه بمرسل ، ولا يقبل منه في ذلك خبرا مقطوعا ، وكلهم عند تحصيل المناظرة يطالب خصمه بالاتصال في الأخبار . قال : وسبب ذلك أن التنازع إنما يكون بين من لا يقبل المرسل ، وبين من يقبله . فإن احتج به من يقبله على من لا يقبله يقول له : فأت بحجة غيره ، وإن احتج به من لا يقبله على من يقبله ، قال له كيف تحتج علي بما ليس حجة عندك ؟ ونحو هذا ، ولم نشاهد نحن مناظرة بين مالكي يقبله ، وبين حنفي يذهب في ذلك مذهبه . ويلزم على أصل مذهبهما في ذلك قبول كل واحد خبر صاحبه المرسل إذا أرسله ثقة عدل ما لم يعترضه من الأصول ما يدفعه . قال : وأما الإرسال ممن عرف بالأخذ من الضعفاء والمسامحة في ذلك ، [ ص: 347 ] فلا يحتج به ، تابعيا كان أو من دونه وكل من عرف أنه لا يأخذ إلا عن ثقة فتدليسه ومرسله مقبول . ا هـ .

قلت : وعلى هذا لو لم نعلم هل يأخذ عن ثقة أو لا ؟ توقفنا فيه ، ولا نقبله للجهل بحال شيخه . فمراسيل سعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، عندهم صحاح ، وقالوا : مراسيل عطاء ، والحسن ، لا يحتج بها ; لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد ، وكذا مراسيل أبي قلابة ، وأبي العالية . هذا حاصل كلام ابن عبد الله ، وقال أبو بكر الخطيب : لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بتدليس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره ، أو لم يلقه ، كرواية ابن المسيب ، وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر ، والحسن البصري ، وقتادة ، وغيرهم من التابعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمثابته في غير التابعين ، كمالك ، والقاسم بن محمد ، وكذا حكم من أرسل حديثا عن شيخ لقيه ، ولم يسمع ذلك الحديث منه ، وسمع ما عداه . ثم قيل : هو مقبول ، إذا كان المرسل ثقة عدلا ، وهو قول مالك ، وأهل المدينة ، وأبي حنيفة ، وأهل العراق ، وغيرهم ، وقال الشافعي : لا يجب العمل به ، وعليه أكثر الأئمة من نقاد الأثر .

التالي السابق


الخدمات العلمية