صفحة جزء
[ ص: 349 ] المذاهب في قبول رواية المرسل ] ويخرج من كلامه وكلام ابن عبد البر وغيرهما مما وقفت عليه في المرسل ثمانية عشر مذهبا : أحدها : عدم قبول رواية مرسل التابعين ومن بعدهم مطلقا ، وقبول مرسل الصحابي . قال أبو الحسين في " المعتمد " : وهو قول بعض أصحاب الشافعي ، وحكى القاضي عبد الجبار عنه أنه قال : إذا قال الصحابي : قال النبي كذا قبل ، إلا إن علم أنه أرسله . والثاني : قبوله من العدل مطلقا ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة . والثالث : تقبل مراسيل الصحابي فقط حكاه عبد الجبار في " شرح العدة " ، وقال : إنه الصحيح من مذهب الشافعي . قال : وأما مراسيل التابعين ، فلا تقبل إلا بالشروط المعروفة عنده . والرابع : لا تقبل مراسيل الصحابة أيضا ، وحكي عن الأستاذ أبي إسحاق ، وحكاه القاضي أبو بكر ، وابن القشيري ، وأغرب ابن برهان فقال في " كتاب الأوسط " : إنه الأصح ، وقال القاضي عبد الوهاب في " الملخص " : إنه الظاهر من مذهب الشافعي ، ونقله ابن بطال في " شرح البخاري " تصريحا عن الشافعي ، واختيار القاضي أبي بكر . والخامس : تقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن هو أئمة النقل دون غيرهم . والسادس : لا تقبل إلا إن اعتضد بأمر خارج بأن يرسله صحابي آخر ، أو يسنده عمن يرسله ، أو يرسله راو آخر يروي عن غير شيوخ [ ص: 350 ] الأول ، أو عضده قول صحابي أو فعله ، أو قول أكثر أهل العلم أو القياس ، أو عرف من حال المرسل أنه لا يروي عن غير عدل ، فهو حجة ، وهذا قول الشافعي ، وأكثر أصحابه ، ووافقه القاضي أبو بكر ، ولا فرق بين سعيد بن المسيب وغيره .

السابع : تقبل مراسيل كبار التابعين دون من صغر عنهم . والثامن : أن الصحابي والتابعي إذا عرف بصريح خبره ، أو عادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله ، وإن لم يعرف بذلك فلا يقبل ، واختاره بعضهم على قبول رد المرسل . والتاسع : تقبل مراسيل من عرف منه النظر في أحوال شيوخه والتحري في الرواية عنهم دون من لم يعرف بذلك . والعاشر : يقبل مرسل سعيد بن المسيب دون غيره .

والحادي عشر : من القائلين بقبوله يقدم ما أرسله الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على من ليس في درجتهم . حكاه القاضي أبو بكر . والثاني عشر : منهم من أطلق القول بأن مراسيل الثقات أولى من المسندات ، ولم يقيده بشيء ، ومنهم من قال : مرسل الإمام أولى من مسنده . والثالث عشر : منهم من يقول : ليس المرسل أولى من المسند ، بل هما سواء في وجوب الحجة والاستعمال . والرابع عشر : منهم من يقول : للمسند مزية فضل لوضع الاتفاق ، وإن كان المرسل يجب العمل به . الخامس عشر : منهم من يفرق ، فيقبل مراسيل بعض التابعين دون بعض . قال أحمد بن حنبل : أصح المراسيل مراسيل سعيد ، وقال الشافعي : إرسال سعيد عندنا حسن . [ ص: 351 ]

السادس عشر : من المنكرين للمرسل من يقبل مراسيل الصحابة والتابعين ; لأنهم يروون عن الصحابة . السابع عشر : كان أحمد بن حنبل يختار الأحاديث الموقوفة على الصحابة على المرسلات عن النبي صلى الله عليه وسلم . الثامن عشر : لا يقبل المرسل إلا في حالة واحدة ، وهي أن يعضده إجماع فيستغنى بذلك عن المسند . قاله ابن حزم في كتاب " الإحكام " . هذا حاصل ما قيل ، وفي بعضها تداخل . ولا خلاف أن المرسل إذا كان غير ثقة لا يقبل إرساله ، فإن كان ثقة ، وعرف أنه يأخذ عن الضعفاء ، فلا يحتج بما أرسله سواء التابعي وغيره ، وكذا من عرف بالتدليس المجمع عليه ، حتى يصرح بالتحديث ، وإن كان لا يروي إلا عن ثقة فمرسله وتدليسه ، هل يقبل ؟ فيه الخلاف ، وقد تقدم من كلام ابن عبد البر - وهو من المالكية - تخصيص محل الخلاف بغير ذلك .

وكذلك قال أبو الوليد الباجي منهم : المرسل عندنا إنما يحتج به إذا كان من عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة . وكذا قال أبو بكر الرازي من الحنفية من علمنا من حاله أنه يرسل الحديث عمن لا يوثق بروايته ، لا يجوز حمل الحديث عنه ، فهو غير مقبول عندنا ، وإنما كلامنا فيمن لا يرسل إلا عن الثقات ، وقال القرطبي : ليعلم أن محل الخلاف إنما هو فيما إذا كان المرسل ثقة متحرزا بحيث لا يأخذ عن غير العدول قال : ويلزم الشافعي ، والقاضي أبا بكر القول بالمرسل حينئذ ; لأنهما قبلا التعديل بالمطلق ، والمرسل إذا علم [ ص: 352 ] من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل قبل منه ، كما لو صرح باسمه . ا هـ . وعلى هذا فيرتفع النزاع في المسألة ، وبه صرح إلكيا الطبري فقال : إذا تبين من حال المرسل أنه لا يروي إلا عن صحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عن رجل تتفق المذاهب على تعديله صار حجة ، وادعى أن ذلك مذهب الشافعي . ثم قال : وهذه المسألة لا ينبغي أن يقع فيها خلاف ، فإن أحدا لا يوجب التقليد ، ولا ينكر اختلاف المذاهب في التعديل ، والشافعي يقول : أخبرني الثقة ، فإنه لا يلزم غير أهل مذهبه قبوله . وإنما قال الأصحاب : مذهبه وقوله حجة عليهم ، ومذهبه في التعديل مذهبهم . ا هـ .

وقال شمس الأئمة السرخسي من الحنفية : لا خلاف أن مراسيل الصحابة حجة ، فأما مراسيل أهل القرن الثاني والثالث فحجة في قول علمائنا ، وقال الشافعي : لا تكون حجة إلا بشروط . ثم قال : فأما مراسيل من بعد القرون الثلاثة ، فكان الكرخي لا يفرق بين مراسيل أهل الأعصار ، وكان عيسى بن أبان يقول : من اشتهر في الناس بحمل العلم تقبل روايته مرسلا ومسندا ، وإنما يعني به محمد بن الحسن وأمثاله من المشهورين بالعلم ، ومن لم يشتهر يحمل الناس العلم عنه مطلقا ، وإنما اشتهر بالرواية عنه ، فإن مسنده يكون حجة ، ومرسله يكون موقوفا إلى أن يعرض على من اشتهر بحمل العلم عنه . ثم قال : وأصح الأقاويل في هذا ما قاله أبو بكر الرازي : أن مرسل من كان من القرون الثلاثة ( ليس ) حجة ، إلا من اشتهر ، وقال عبد الوهاب في " الملخص " : ظاهر مذهب مالك قبول المراسيل مطلقا إذا كان المرسل عدلا يقظا ، وكذا حكاه عنه أبو الفرج ، فأما البغداديون من أصحابنا كالقاضي إسماعيل ، والشيخ أبي بكر ، فإنهم وإن لم يصرحوا بالمنع ، فإن كتبهم تقتضي منع القول به ، لكن مذهب صاحب المذهب أولى بالصحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية