صفحة جزء
وقال ابن السمعاني في القواطع " : مذهب الشافعي أن المرسل بنفسه [ ص: 356 ] لا يكون حجة ، وقد ينضم إليه ما يكون حجة على ما سنبين ، ثم قال : واعلم أن الشافعي إنما رد المرسل ، لدخول التهمة فيه . فإن اقترن به ما يزيل التهمة فإنه يقبل ، وذلك بأن يوافق مرسله مسند غيره ، أو تتلقاه الأمة بالقبول أو انتشر ، ولم يظهر له نكير . قال بعضهم : وكذلك إذا اشترط في إرساله عدلان فأكثر ، فيقوى به حال المرسل ، أو يكون موافقا للقياس . قال : وعندي أن المرجح إنما هو في مسند آخر ، أو تلقي الأمة له بالقبول ، أو اشتهاره من غير نكير ، وما عدا ذلك ، فلا يدل على قبول المرسل . انتهى .

وقال صاحب المعتمد " : حكي عن الشافعي أنه خص مراسيل الصحابة بالقبول ، وحكي عنه أيضا أنه قال : إذا قال الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، قبلت ، إلا إذا علم أنه أرسله . ا هـ . ولنذكر كلام الشافعي في الرسالة " فإنه يعرف منه مذهبه ، قال البيهقي في المدخل " : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، أنبأنا الربيع بن سليمان ، قال الشافعي : يعني في كتاب الرسالة " : المنقطع يختلف ، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروى حديثا منقطعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور : منها : أن ينظر إلى ما أرسله من الحديث ، فإن شركه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى ، كانت هذه دلالة واضحة على صحة من قبل عنه ، وحفظه ، وإن انفرد به مرسلا لم يشركه فيه من يسند قبل ما ينفرد به من ذلك ، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل آخر ، فإن وجد ذلك قوي ، وهي أضعف من الأولى . [ ص: 357 ] وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض الصحابة قولا له ، فإن وجدنا ما يوافق بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت شاهدة دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى ، وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي لم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا واهيا ، فيستدل بذلك على صحته ، ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديثه لم يخالفه ، ووجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه . ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه ، حتى لا يسع أحدا قبول مرسله .

قال : وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصف أحببنا أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل ، وذلك أن معنى المنقطع مغيب ، يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب في الرواية عنه إذا سمي ، وأن بعض المنقطعات ، وإن وافقه مرسل مثله ، فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحدا من حيث لو سمي لم يقبل ، وأن قول بعض الصحابة إذا قال برأيه لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض الصحابة بموافقه .

قال : فأما من بعد كبار التابعين فلا أعلم واحدا يقبل مرسله ، لأمور : أحدها : أنهم أشد تجوزا ممن يروون عنه ، والآخر أنهم لم يوجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا لضعف مخرجه ، والآخر كثرة الإحالة في الأخبار ، وإذا كثرت الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه . انتهى كلام الشافعي .

وقد تضمن كلامه رضي الله عنه أمورا : [ ص: 358 ] أحدها : أن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل على صحة ذلك المرسل ، وعلم من كلام الشافعي اشتراط صحة ذلك المسند . الثاني : أنه إذا لم يسند من وجه آخر نظر ، هل يوافقه مرسل آخر ، فإن وافقه مرسل آخر قوي ، لكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أسند من وجه آخر . فإن قيل على هذين الأمرين : إن كان الوجه الآخر إسنادا ، فالعمل حينئذ على المسند ، وإن كان إرسالا فضم غير مقبول إلى غير مقبول ، كانضمام الماء النجس إلى مثله ، وشهادة الفاسق مع مثله ، لا يفيد الطهارة والقبول ، وهذا اعترضه القاضي أبو بكر على الشافعي وتبعوه ، وهو مردود ، لأنا لا نسلم أن العمل بالمسند فقط ; لأن بالمسند يتبين صحة إسناد الإرسال ، حتى تحكم له مع إرساله بأنه صحيح الإسناد ، وأيضا لو عارض المسند الذي دون المرسل مسند آخر يترجح صاحب المرسل ، إذا تعذر الجمع ، وأيضا فالاحتجاج بالمسند إنما ينتهض إذا كان بنفسه حجة ، ولعل الشافعي أراد هنا بالمسند ما لا ينتهض بنفسه ، كما أشار إليه الإمام في المحصول ، وإذا ضم إلى المرسل قام به المرسل ، وصار حجة ، وهذا ليس عملا بالمسند ، بل بالمرسل لزوال التهمة عنه ، ولا نسلم عدم قبوله إذا كان القوي مرسلا ، لجواز تأكيد أحد الظنين بالآخر . الثالث : أنه إذا لم يوافقه مرسل آخر لم يسند من وجه آخر ، ولكنه وجد عن بعض الصحابة قول له يوافق هذا المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم دل على أن له أصلا ، ولا يطرح ، ولا يرد اعتراض القاضي بأن قول الصحابي عنده ليس بحجة ، لأن مراده التقوية به ، لا الاستقلال .

الرابع : أنه إذا وجد جمع من أهل العلم يقولون بما يوافق هذا المرسل ، [ ص: 359 ] دل على أن له أصلا ، واعترض القاضي أبو بكر بأنه إن أراد بالأكثر الأمة فهو إجماع ، والحجة حينئذ فيه لا في المرسل ، وإن أراد بعض الأمة فقولها ليس بحجة ، والجواب عنه أنه أراد الثاني ، ولا شك أن الظن يقوى عنده ، وكذا قول الصحابي ، وإذا قوي الظن وجب العمل بالمرسل ، فمجرده ضعيف ، وكذا قول أكثر أهل العلم ، وحالة الاجتماع قد يقوم منها ظن غالب ، وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا . الخامس : أنه ينظر في حال المرسل ، فإن كان إذا سمى شيخه سمى ثقة لم يحتج بمرسله ، وإن كان إذا سمى لم يسم إلا ثقة ، ولم يسم مجهولا ولا واهيا ، كان دليلا على صحة المرسل ، وقد تقدم أن هذا محل وفاق ، لكنه دون ما قبله .

السادس : أن ينظر إلى هذا المرسل له ، فإن كان إذا أشرك غيره من الحفاظ في حديث وافقه فيه ، ولم يخالفه ، دل على حفظه ، وإن خالفه ووجد حديثه أنقص إما في الإسناد أو المتن ، كان هذا دليلا على صحة مخرج حديثه ، وأن له أصلا ، فإن هذا يدل على حفظه وتحريه ، بخلاف ما إذا كانت مخالفته بزيادته ، فإن هذا يوجب التوقف والاعتبار ، وهذا دليل من الشافعي ( رضي الله عنه ) على أن زيادة الثقة عنده ليست مقبولة مطلقا كما يظن جماعة ، فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه ، ولم يعتبر المخالف بالزيادة ، وجعل نقصان هذا الراوي من الحديث دليلا على صحة مخرج حديثه ، وأخبر أنه متى خالف ما وصف أضر ذلك بحديثه ، ولو كانت الزيادة عنده مقبولة مطلقا ، لم تكن مخالفته بالزيادة مضرا بحديثه . السابع : هذا الحكم لا يختص عنده بمرسل سعيد بن المسيب ، وزعم [ ص: 360 ] بعض الأصحاب اختصاصه بسعيد معتمدا على قوله في الأم " في كتاب الرهن الصغير وقد قيل له : كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعا ، ولم تقبلوه عن غيره ؟ قلنا : لا نحفظ لسعيد منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده ، ولا يأثره عن أحد فيما عرفناه عنه إلا عن ثقة معروف . انتهى . وهذا القائل كأنه لم ينظر قوله بعده : فمن كان مثل حاله قبلنا منقطعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية