صفحة جزء
[ ص: 370 ] فصل في الفرق بين الرواية والشهادة . قال القرافي : أقمت زمانا أتطلب الفرق بينهما بالحقيقة حتى وجدته محققا في كلام المازري في شرح البرهان " ، فإن كثيرا من الناس يفرقون بينهما باختلافهما في بعض الأحكام ، وهو إنما يكون بعد تحقيق فصل كل واحد منهما . وحاصل الفرق أن الرواية والشهادة خبران ، غير أن الخبر إن كان عن حكم عام تعلق بالأمة ، ولا يتعلق بمعين ، مستنده السماع ، فهو الرواية ، وإن كان خبرا جزئيا يتعلق بمعين مستنده المشاهدة أو العلم فهو الشهادة . فالرواية تعم حكم الراوي وغيره على ممر الأزمان ، والشهادة محض المشهود عليه وله ، ولا يتعداهما إلا بطريق التبعية ، ومن ثم كان باب الرواية أوسع من باب الشهادة ; لأن مبنى حقوق الآدميين على التضييق ، والرواية تقتضي شرعا عاما فلا يتعلق بمعين ، فتبعد فيه التهمة ، فلذلك توسع فيه ، فلم يشترط فيه انتفاء القرابة والعرافة ، ولا وجود العدد ، والذكورة ، والحرية . واستشكل الأصفهاني في هذا الفرق بأن عموم الحكم يقتضي الاحتياط والاستظهار بالعدد وجوابه أن الراوي يثبت حكما على نفسه وعلى غيره ، فلم يتطرق إليه التهمة . بخلاف الشاهد ، فإنه يثبت حقا على غيره ، فاحتيط له . وقد ذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله - وجوها لمناسبة العدد في الشهادة دون الرواية : [ ص: 371 ] منها : أن الغالب على المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف شهادة الزور ، فاحتيج إلى الاستظهار فيها .

ومنها : أنه قد ينفرد بالحديث النبوي شاهد واحد ، فلو لم يقبل لفات على أهل الإسلام تلك المصلحة العامة ، بخلاف فوات حق واحد على شخص واحد في المحاكمات ، وبهذا يظهر أن العمل بتزكية الواحد في الرواية أحوط . ومنها : أن بين كثير من المسلمين إحنا وعداوات ، قد تحملهم على شهادة الزور ، بخلاف الأخبار النبوية . واعلم أن الشافعي - رضي الله عنه - قد تعرض للفرق بين الرواية والشهادة في مناظرة له مع صاحب أبي حنيفة ، حكاه الروياني في البحر " في باب شهادة النساء ، فقال : قال الشافعي : والخبر ما استوى فيه المخبر والمخبر والعامة من حلال وحرام ، والشهادة ما كان الشاهد فيه خليا والعامة ، وإنما يلزم المشهودة عليه . ثم قال الروياني : فإن قيل ما معنى قول الشافعي : الخبر ما استوى فيه المخبر والمخبر ، ومن الأخبار ما لا يلزم الراوي به حكم ، ويلزم غيره ، ومن الشهادات ما يلزم الشاهد بها الحكم ، كما يلزم المشهود عليه ، وهو الشهادة على الصوم والفطر ؟ قلنا : قال الشافعي هذا ، وأراد ما فسره به من تحليل وتحريم اللذين هما مؤبدان لا ينقطعان ، وليس كذلك ما ذكروه في الصوم والفطر وغير ذلك مما يقطع . وحكى ابن القاص عن أبي الطيب بن سلمة أنه كان يقول : قد [ ص: 372 ] يستوي الشاهد والمشهود عليه في الحكم ، وهو ما إذا شهد اثنان من الورثة على الميت بدين لإنسان ، فإنه يلزمهما من الدين ما يلزم الجاحد من الورثة ، وقد يكون في الأخبار من يختص به غيره ، ولا يجب على الراوي به شيء ، ولكن أراد الشافعي بما قاله الغالب من أمرهما ، فإن الغالب من الشهادة أن الشاهد لا يدخل فيما يجب له ، والغالب من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم استواء المخبر ، وسائر الناس فيه . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية