صفحة جزء
[ المبحث الثالث ] في إمكان الاطلاع عليه وإذا ثبت أنه ممكن في نفسه ، فاختلفوا في إمكان الاطلاع عليه . فمنعه قوم لاتساع خطة الإسلام ، وانتشارهم في أقطار الأرض ، وتهاون الفطن ، وتعذر النقل المتواتر في تفاصيل لا تتوافر الدواعي على نقلها ، ولتعذر العلم ببقاء المعنى الأول إلى أن يفنى الآخر . والصحيح إمكانه عادة ، فقد اجتمع على الشبه خلق كثيرون زائدون على عدد أهل الإسلام ، فالإجماع على الحق مع ظهور أدلته أولى . نعم ، العادة منعت اجتماع الكافة ، فأما الخلق الكثير فلا تمنع العادة اتفاقهم بوجه ما .

واشتد نكير القاضي على من أنكر تصور وقوعه عادة ، وفصل إمام الحرمين بين كليات الدين . فلا يمنع من تصور الدواعي المستحثة ، وكما صوره القاضي في اجتماع أهل الضلالة ، وبين المسائل المظنونة مع تفرق [ ص: 383 ] العلماء وانتفاء الدواعي فلا تتصور عادة ، ونقل عن الإمام أحمد ما يقتضي إنكاره ، قال في رواية ابنه عبد الله : من ادعى الإجماع فقد كذب ، لعل الناس قد اختلفوا ، ولكن يقول : لا يعلم الناس اختلفوا إذ لم يبلغه . قال أصحابه : وإنما قال هذا على جهة الورع ; لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه ، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف ; لأن أحمد قد أطلق القول بصحة الإجماع في مواضع كثيرة ، وأجراه ابن حزم الظاهري على ظاهره .

وقال ابن تيمية : أراد غير إجماع الصحابة ; لأن إجماع الصحابة عنده حجة معلوم تصوره . أما من بعدهم فقد كثر المجتهدون ، وانتشروا . قال : وإنما قال ذلك ; لأنه كان يذكر الحديث فيعارض بالإجماع ، فيقول : إجماع من ؟ إجماع أهلالمدينة ؟ إجماع أهل الكوفة ؟ حتى قال : ابن علية والأصم يذكرون الإجماع . وجعل الأصفهاني موضع الخلاف في غير إجماع الصحابة ، وقال : الحق تعذر الاطلاع على الإجماع ، لا إجماع الصحابة ، حيث كان المجمعون ، وهم العلماء في قلة ، أما الآن وبعد انتشار الإسلام ، وكثرة العلماء ، فلا مطمع للعلم به . قال : وهو اختيار أحمد مع قرب عهده به من الصحابة ، وقوة حفظه ، وشدة اطلاعه على الأمور النقلية . قال : والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوبا في الكتب ، ومن البين أنه لا يحصل [ ص: 384 ] الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم ، أو بنقل أهل التواتر إلينا ، ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة ، وأما بعدهم فلا . انتهى .

وعقد القاضي عبد الوهاب بابا في أن الإجماع يصح أن يعلم وقوعه وقال : من الناس من منع أن يكون للعلم به طريقة يعلم بها حصوله ، ثم زيفه . قال : والطريق شيئان . أحدهما : المشاهدة ، والآخر النقل . فإن كان الإجماع متقدما فليس إلا النقل ، لتعذر المشاهدة . وإن كان في الوقت فالأمران طريق إليه ، ووجه الحصر أنه لا يمكن أن يعلم بالعقل ، ولا بخبر من الله تعالى ورسوله عليه السلام ، لتعذره ، فتعين ما قلناه . وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في " شرح الترتيب " : نحن نعلم أن مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة . وبهذا يرد قول الملحدة إن هذا الدين كثير الاختلاف ، إذ لو كان حقا لما اختلفوا فيه ، فنقول : أخطأت بل مسائل الإجماع أكثر من عشرين ألف مسألة . ثم لها من الفروع التي يقع الاتفاق منها وعليها ، وهي صادرة عن مسائل الإجماع التي هي أصول أكثر من مائة ألف مسألة ، يبقى قدر ألف مسألة هي من مسائل الاجتهاد ، والخلاف في بعضها يحكم بخطأ المخالف على القطع وبفسقه ، وفي بعضها ينقض حكمه ، وفي بعضها يتسامح ، ولا يبلغ ما بقي من المسائل التي تبقى على الشبهة إلى مائتي مسألة . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية