صفحة جزء
[ المنكرون للواجب الموسع ] وأما المنكرون للواجب الموسع ، فاختلفوا على خمسة مذاهب : أحدها : أن الوجوب يختص بأول الوقت ، فإن أخر عنه فقضاء غير أنه لا يأثم ، وحكاه أبو الحسين في المعتمد عن بعض الناس ، وحكاه صاحب المصادر " عن بعض الشافعية وكذا الإمام في المعالم " ، والبيضاوي في المنهاج " ، فلم ينفرد إذن بنقله كما زعم بعضهم حتى قال السبكي : سألت ابن الرفعة ، وهو أوحد الشافعية في زمانه ، فقال : تتبعت هذا في كتب المذهب فلم أجده . وقال ابن التلمساني : هذا لا يعرف في مذهب الشافعي . ولعل من عزاه إليهم التبس عليه بوجه الإصطخري ، وهو أن الذي يفضل فيما زاد [ ص: 284 ] على صلاة جبريل في الصبح والعصر يكون قضاء . انتهى .

وهو فاسد ; لأن الوقت عنده موسع ، ومنهم من أخذه من تضييق وقت المغرب على القول الجديد ، وهو فاسد ; لأن هذا تضييق ، ومنهم من أخذه من قولهم : تجب الصلاة بأول الوقت ، فظن أن الوقت متعلق بالصلاة ، وإنما أرادوا أنه يتعلق بتجب ، فوقع الالتباس في الجار والمجرور . وقيل : بل أخذه من قول الشافعي : رضوان الله أحب إلينا من عفوه ، وقيل بل من قول الشافعي في الأم " في الخامس في كتاب الحج : نقل عن بعض أهل الكلام وبعض من يفتي : أن تأخير الصلاة عن أول وقتها يصيرها قضاء ، وتأخير الحج وما أشبهه ، وهذا الأخذ فاسد ; لأن قائله لا يقول : إن الوقت يخرج ويصير قضاء بعد أوله ، كما نقل الإمام ، بل إنه يعصي بالتأخير ، ولا يلزم من العصيان خروج الوقت .

وظاهر كلامه : أن هذا القائل يقول بالتأثيم إذا أخره عن أول الوقت ، والقاضي أبو بكر نقل إجماع الأمة على أن المكلف لا يأثم بتأخيره عن أول الوقت ، ولذلك عبر بعضهم عن هذا القول : أنه في آخر الوقت قضاء يسد مسد الأداء ، وما نقله الشافعي أثبت . لكن قال القاضي في التقريب " ، وابن القشيري في أصوله : ذهب بعض الفقهاء إلى أن الصلاة تجب بأول الوقت ، وإن أخرت كانت قضاء قال : وهذا القائل يجوز التأخير . قال : وقد نقل عن مالك بن أنس قريب من ذلك في الحج وجملة [ ص: 285 ] العبادات المتعلقة بالعمر ، ورأى مثل ذلك في الصلاة . ا هـ .

قال ابن القشيري : هكذا حكاه القاضي عنه . والثاني : أن الوجوب يختص بآخر الوقت ، وأوله سبب للجواز ، وهو ما مال إليه إمام الحرمين في البرهان " ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي ، ونقله ابن برهان في الأوسط " عن بعضهم وهكذا قاله صاحب الكبريت الأحمر " ، ونقله في المعتمد " عن أكثر المعتزلة ، ونقله ابن السمعاني عن الكرخي والرازي وأكثر أصحابهم من العراقيين . وظاهر كلام أبي بكر الرازي أن عليه أكثر الحنفية ، فإنه حكى القول بالتوسعة عن محمد بن شجاع ، ثم قال : وقال غيره من أصحابنا : إن الوجوب متعلق بآخره ، وإن أول الوقت لم يجب عليه غيره ، ثم قال : والذي حصلناه عن شيخنا أبي الحسن الكرخي : أن الوقت جميعه وقت الأداء ، والوجوب يتعين فيه بأحد وقتين ; لأنه إما أن يؤخره إلى آخر الوقت فالوجوب يتعين بالوقت المفعول فيه للصلاة . وقال شمس الأئمة السرخسي في " أصوله " : نقل عن ابن شجاع أن الصلاة تجب بأول جزء من الوقت وجوبا موسعا وهو الصحيح ، وأكثر مشايخنا العراقيين ينكرون هذا ويقولون : الوجوب لا يثبت في أول الوقت ، وإنما يتعلق بآخره بدليل ما لو حاضت في آخر الوقت لا يلزمها قضاء الصلاة إذا طهرت . ا هـ . [ ص: 286 ]

ونص الدبوسي في تقويم الأدلة " على القول بالوجوب الموسع ، وأبطل القول بتعلقه بآخره . وقال شارح الهداية " : القول بأن الصلاة تجب بآخر الوقت وفي أوله نافلة قول ضعيف نقل عن بعض أصحابنا ، وليس منقولا عن أبي حنيفة ، والصحيح عندنا : أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا موسعا . ا هـ .

والحاصل : أن الصحيح عند الحنفية كمذهبنا ، وأن هذا القول يروى عن بعض أصحابهم ثم القائلون به فيما لو فعله أول الوقت على ثلاثة مذاهب : فقيل : تقع واجبة بكل حال ، فعلى هذا تجب الصلاة إما بفعلها أو بمجيء آخر الوقت ، وقيل : تقع نافلة بكل حال إلا أنها تمنع من وجوب الصلاة عليه في آخر الوقت كالزكاة المعجلة عندنا ، وقيل : يراعى فإن لحق آخره وهو بصفة التكليف كان فرضا وإلا فلا . حكى الثلاثة الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، والأخيرين أبو بكر الرازي منهم . [ ص: 287 ] وقال القاضي عن الثالث : إنه الذي عول عليه الدهماء من أصحاب أبي حنيفة . والثالث : أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت إذا بقي منه قدر تكبيرة .

والرابع : كذلك ، وآخره إذا بقي قدر صلاة . فإن عجل فنفل يسقط به الفرض ، وذهب إليه بعض الحنفية . والخامس : أنه إن كان مكلفا آخر الوقت تبينا أنه وقع واجبا وإلا فنفل . نقل عن الكرخي ، وعنده الصلاة في أول الوقت لا توصف بالنفل ولا الفرض ، وهو نظير وجه عندنا في المعادة أنه ينوي بها فرضا ولا نفلا .

والسادس : أنه إن كان مكلفا آخر الوقت كان ما فعله مسقطا للفرض تعجيلا نقله أبو الحسين عن أبي عبد الله البصري . والسابع : أنه إذا اختار وقتا تعين إلى أن يتضيق ، فيتعين بالتضييق ، وهو مذهب أبي بكر الرازي ، ومنهم من عبر عنه أن يكون الوجوب مختصا بالجزء الذي يتصل الأداء به وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ، ولا يفضل عنه ، وحكاه أبو بكر الجصاص عن الكرخي . وادعى الصفي الهندي أنه المشهور عند الحنفية ، وهو ; لأن سبب الوجوب عندهم كل جزء من الوقت على البدل إن اتصل به الأداء وإلا [ ص: 288 ] فآخره ، إذ يستحيل أن يكون جميع الوقت سببا ، وإلا لزم الوجوب بعده ، وقال : وإنما عددت هذه الفرقة من المنكرين للواجب الموسع مع قولهم : إن الصلاة مهما أديت في الوقت كانت واجبة وأداء ; لأنهم لم يجوزوا أن يكون الوقت فاضلا عن الفعل بخلاف القائلين به ، فإنهم يجوزون ذلك . والثامن : أن الوجوب متعلق بجزء من الوقت غير معين كما تعلق في الكفارات بواحد غير معين ، وتأدى الوجوب فيهما بالغير . حكاه المجد بن تيمية عن بعض المتكلمين قال : وهو أصح عندي وأشبه بأصولنا في الكفارات ، فيجب أن يجعل مراد أصحابنا عليه .

والتاسع : حكاه الروياني في البحر " عن بعض أصحابنا أن كل جزء من الوقت له حظ في الوجوب ، ولا نقول : وجب بأول الوقت حتى لو أدرك جميع الوقت نقول : وجب بجميع الوقت ، وهذا كالقيام يجب بقدر الفاتحة فلو أطال القيام بقراءة السورة فالكل واجب . قال : وهذا خلاف المذهب .

التالي السابق


الخدمات العلمية