صفحة جزء
[ ص: 424 ] مسألة [ هل يعتبر بخلاف الظاهرية في الإجماع ] ذهب قوم منهم القاضي أبو بكر ، والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، ونسبه إلى الجمهور أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس في الحوادث الشرعية ، وتابعهم إمام الحرمين ، والغزالي ، قالوا ; لأن من أنكره لا يعرف طرق الاجتهاد ، وإنما هو متمسك بالظواهر ، فهو كالعامي الذي لا معرفة له ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي بن أبي هريرة ، وطائفة من أقرانه ، وقال الأصفهاني شارح المحصول " : يلزم القائل بذلك أنه لا يعتبر خلاف منكر العموم ، وخبر الواحد ، ولا ذاهب إليه . قلت : نقل الأستاذ عن ابن أبي هريرة - رحمه الله - أنه طرد قوله في منكر أخبار الآحاد ، ومن توقف في الظواهر والعموم . قال : لأن الأحكام الشرعية تستنبط من هذه الأصول ، فمن أنكرها وتوقف فيها لم يكن من أهل الاجتهاد ، فلا يعتبر بخلافه . قال النووي في باب السواك في شرح مسلم " : إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون ، وكذا قال صاحب " المفهم " جل الفقهاء والأصوليين على أنه لا يعتد بخلافهم ، بل هم من جملة العوام ، وإن من اعتد بهم فإنما ذلك ; لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع ، والحق خلافه .

وذكر غيره أنهم في الشرعيات كالسوفسطائية في العقليات ، وكذا قال أبو بكر الرازي من الحنفية : لا يعتد بخلافهم ، ولا يؤنس بوفاقهم . [ ص: 425 ] وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ، ويمنع العموم ومن حمل الأمر على الوجوب ; لأن مدار الفقه على هذه الطرق ، ونقل ابن الصلاح عن الأستاذ أبي منصور أنه حكى عن ابن أبي هريرة وغيره ، أنهم لا يعتد بخلافهم في الفروع ، ويعتد بخلافهم في الأصول ، وقال إمام الحرمين : المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزنا ; لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها .

وقال في كتاب اللعان : إن قول داود بإجزاء الرقبة المعيبة في الكفارة نقل الشافعي - رحمه الله تعالى - الإجماع على خلافه . قال : وعندي أن الشافعي لو عاصر داود لما عده من العلماء ، وقال الإبياري : هذا غير صحيح عندنا على الإطلاق ، بل إن كانت المسألة مما تتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي ، ولا مخالف للقياس فيها لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ . فإن قلنا : بالتجزؤ ، لم يمنع أن يقع النظر في فرع هم فيه محقون ، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة الكلامية ; لأن له فيه مدخلا ، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل القياسية يعتد بخلافهم . وقال ابن الصلاح : الذي استقر عليه الأمر ما اختاره الأستاذ أبو منصور ، وحكاه عن الجمهور ، وأن الصحيح من المذهب الاعتداد بخلافهم ، ولهذا يذكر الأئمة من أصحابنا خلافهم في الكتب الفرعية . [ ص: 426 ] ثم قال : والذي أجيب به بعد الاستخارة : أن داود يعتبر قوله ، ويعتد به في الإجماع إلا ما خالف القياس ، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها ، فاتفاق من سواه على خلافه إجماع ينعقد ، فقول المخالف حينئذ خارج عن الإجماع ، كقوله في التغوط في الماء الراكد ، وتلك المسائل الشنيعة ، وفي " لا ربا إلا في النسيئة " المنصوص عليها ، فخلافه في هذا وشبهه غير معتد به . ا هـ . فتحصلنا على خمسة آراء في المسألة .

وقد اعترض ابن الرفعة على إطلاق إمام الحرمين بأن القاضي الحسين نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال في الكتابة : لا أمتنع من كتابة العبد عند جمع القوة والأمانة ، وإنما أستحب الخروج من الخلاف ، فإن داود أوجب كتابة من جمع بين القوة والأمانة ، وداود من أهل الظاهر ، وقد أقام الشافعي لخلافه وزنا ، واستحب كتابة من ذكره لأجل خلافه . ا هـ . وهذا وهم عجيب من ابن الرفعة ; لأن داود إنما ولد قبل وفاة الشافعي بسنتين ; لأنه ولد سنة اثنتين ومئتين ، ولا يمكن أن يقال : اعتبر الشافعي خلافه ، فغلط ابن الرفعة لأجل فهمه أن هذه الجملة من كلام الشافعي ، وليس كذلك وإنما استحب هو ، بفتح الحاء ، وهو من كلام القاضي الحسين والمستحب هو القاضي الحسين ، لكنه علله بتعليل غير صحيح لما ذكرناه .

نعم ، أوجبها قبل غير داود ، فالمراد الخلاف الذي عليه داود لا خصوص داود على أنه قد قيل : إن كلام القاضي الحسين مستقيم ، والجملة من قول الشافعي ، وليس المراد صاحب الظاهر ، بل المراد به [ ص: 427 ] داود بن عبد الرحمن العطار شيخ الشافعي بمكة ، الذي قال فيه الشافعي : ما رأيت أورع منه ، ولعله الذي نقل عنه الشافعي وجوب العقيقة ، فإن الشافعي قال كما حكاه عنه الإمام في " النهاية " : في باب العقيقة أفرط في العقيقة رجلان ، رجل قال بوجوبها ، وهو داود ، ورجل قال ببدعتها وهو أبو حنيفة ، وكلام القاضي الحسين في التعليق لا يقتضي أن يكون هو داود الظاهري ; لأنه نقل عن الشافعي أنه قال : أستحب كتابة من جمع بين القوة والأمانة للخروج من الخلاف ، فإن داود يوجب كتابة من جمع بين القوة والأمانة ، ولم يقل داود الظاهري كما نقله ابن الرفعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية