صفحة جزء
[ ص: 430 ] الشرط الثاني اتفاق جميع المجتهدين في البقاع ويتفرع عليه مسائل : المسألة الأولى : إذا اتفق الأكثرون وخالف واحد ، فلا يكون قول غيره إجماعا ولا حجة : هذا هو المشهور ، ومذهب الجمهور ، وحكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي من أصحابهم . واحتج القفال بمخالفة ابن عباس في العول ، ودعوته إلى المباهلة ، واعتدوا به خلافا ، وكذا جزم به ابن القطان والصيرفي ، قال : ولا يقال لهذا : شاذ ; لأن الشاذ ما كان في الجملة ، ثم شذ عليهم ، وكيف يكون محجوجا بهم ولا يقع اسم الإجماع إلا به . قال : إلا أن يجمعوا على شيء من جهة الحكاية ، فلزمه قبول خبرهم ، أما من جهة الاجتهاد فلا ; لأن الحق قد يكون معه ، ودليل النظر باق . واحتج جمع من أصحابنا بقصة الصديق في قتال مانعي الزكاة . قال في " البيان " : لأن الصحابة أنكروا على أبي بكر رضي الله عنه ، ولم يكن [ ص: 431 ] قولهم حجة . ا هـ .

وهذا ليس محل الخلاف ، فإن المجتهد ما دام في مهلة النظر لا يكون قول غيره حجة عليه ، فإن رجع أهل الحل والعقد إلى واحد ، قال الغزالي رحمه الله : لم يكن قوله حجة ; لأن اسم الإجماع يستدعي عددا ، فلا أقل من اثنين أو ثلاثة . والمذهب : انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ، ونقله الآمدي عن محمد بن جرير الطبري رحمه الله ، وأبي الحسين بن الخياط من معتزلة بغداد أستاذ الكعبي ، وزاد القاضي عبد الوهاب وابن الأخشاد من أصحاب الجبائي ، وهو رواية أحمد بن حنبل ، ثم رده بمخالفة الصديق جميع الصحابة في قتال الردة ثم رجعوا إليه ، وإلى هذا المذهب يميل كلام الشيخ أبي محمد الجويني ، فإنه قال في كتابه المحيط " : والشرط أن يجمع جمهور تلك الصنعة ، ووجوههم ومعظمهم ، ولسنا نشترط قول جميعهم ، وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم يسمع به ، فإن السلف الصالح كانوا يعلمون ويستسرون بالعلم ، فربما كان الرجل قد أخذ الفقه الكثير ، ولا يعلم ذلك جاره . قال : والدليل على هذا أن الصحابة لما استخلفوا أبا بكر انعقدت خلافته ، بإجماع الحاضرين ، ومعلوم أن من الصحابة من غاب قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض البلدان ، ومن حاضري المدينة من لم يحضر السقيفة ، ولم يعتبر ذلك مع اتفاق الأكثرين . قال الهندي : والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي ، وبه [ ص: 432 ] يشعر إيراد بعضهم ، واحتج ابن جرير على عدم اعتبار قول الأقل بارتكابه الشذوذ المنهي عنه ، وأجيب بأن الشذوذ المنهي عنه هو الشاق لعصا المسلمين ، لا في أحكام الاجتهاد . وقال الأستاذ أبو إسحاق : ثم إن ابن جرير قد شذ عن الجماعة في هذه المسألة ، فينبغي أنه لا يعتبر خلافه ، ويكون مخالفا للإجماع بعين ما ذكر .

والثالث : حجة وليس بإجماع ، ورجحه ابن الحاجب ، فإنه قال : لو عد المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن إجماعا قطعيا . والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون الراجح متمسك المخالف . والرابع : أن عدد الأقل إن بلغ عدد التواتر لم يعتبر بالإجماع دونه وإلا اعتد به . حكاه الآمدي . وقال القاضي أبو بكر : إنه الذي يصح عن ابن جرير . قيل : وهو مبني على أن مستند الإجماع العقل لا السمع ، وأن الإجماع يشترط له عدد التواتر ، إذ التواتر يفيد العلم ، فيجوز أن يكون الحق مع الأقل المخالف ، فلا ينعقد الإجماع دونه ; لأنه ليس بقاطع إذن .

والخامس : اتباع الأكثر أولى ، ويجوز خلافه ، حكاه الهندي . والسادس : يضر الاثنان لا الواحد . والسابع : يضر الثلاثة لا الواحد ، ولا الاثنان ، وخص ابن كج في كتابه خلاف ابن جرير بالواحد ، وحكى الاتفاق على أن خلاف الاثنين والثلاثة يجعل المسألة خلافا ، ويخرج منه طريقة قاطعة بضرر الاثنين والثلاثة . والثامن : إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتدا به ، كخلاف ابن عباس في العول ، وإن أنكروه لم يعتد به ، كخلافه في ربا الفضل . قاله أبو بكر الرازي ، وأبو عبد الله الجرجاني من الحنفية . [ ص: 433 ] وقال شمس الأئمة السرخسي : إنه الصحيح . قيل : وهو راجع إلى انعقاد الإجماع بالأكثر ، أعني تسويغهم المخالفة وعدمه . فلو لم يكن اتفاقهم لم يكن تسويغهم المذكور حجة ، وإيجاب اعتبار الأكثر أولى ، ويجوز خلافه . والتاسع : إن كان يدفع خلاف الواحد نص لم يعتد بخلافه ، كخلاف ابن مسعود للصحابة في الفاتحة والمعوذتين ، ولم يجعلها من القرآن ، فلم يعتدوا بخلافه لوجود النص . وإن كان لا يدفع قول مخالفه نص كان خلافه مانعا من انعقاد الإجماع ، سواء كان من أكابر العصر أو من أصاغرهم سنا ، كخلاف ابن عباس لجميع الصحابة في العول ، فصار خلافه خلافا ، وجزم بهذا التفصيل الروياني في البحر " في كتاب القضاء ، وهو قريب مما قبله . العاشر : لا يعتبر الواحد والاثنان في أصول الدين ، والتأثيم ، والتضليل ، بخلاف مسائل الفروع حكاه القرافي عن ابن الأخشاد ، ويجيء مذهب آخر من المسألة الآتية ، التفصيل بين أن يكون المخالف تابعيا والمجمعون صحابة وبين غيرهم ، وآخر مفصل بين أن ينشأ معهم ويخالفهم أو ينشأ بعدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية