صفحة جزء
[ ص: 456 ] حجية الإجماع السكوتي ثم قد يكون القول من الجميع ، ولا شك ، وقد يكون من بعضهم وسكوت الباقين بعد انتشاره من غير أن يظهر معهم اعتراف أو رضا به ، وهذا هو الإجماع السكوتي ، وفيه ثلاثة عشر مذهبا : أحدها : أنه ليس بإجماع ولا حجة ، وحكي عن داود وابنه ، وإليه ذهب الشريف المرتضى ، وصححه صاحب المصادر " ، وعزاه جماعة إلى الشافعي ، منهم القاضي ، واختاره . وقال : إنه آخر أقواله ، ولهذا قال الغزالي في المنخول " ، والإمام الرازي ، والآمدي : إن الشافعي نص عليه في الجديد . وقال إمام الحرمين : إنه ظاهر مذهبه ، ولهذا قال : ولا ينسب إلى ساكت قول . قال : وهي من عباراته الرشيقة . قلت : ومعناه لا ينسب إلى ساكت تعيين قول ; لأن السكوت يحتمل التصويب ، أو لتسويغ الاجتهاد أو الشك ، فلا ينسب إليه تعيين ، وإلا [ ص: 457 ] فهو قائل بأحد هذه الجهات قطعا ، ثم هذا باعتبار الأصل ، أعني أن لا ينسب إلى ساكت قول إلا بدليل على أن سكوته كالقول أو حقيقة ; لأن السكوت عدم محض ، والأحكام لا تستفاد من العدم ، ولهذا لو أتلف إنسان مال غيره وهو ساكت ، يضمن المتلف . أما إذا قام الدليل على نسبة القول إلى الساكت عمل به ، لقوله صلى الله عليه وسلم في البكر : { إذنها صماتها } وقولنا : إن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على قول أو فعل مع علمه به وقدرته على إنكاره حجة ، وسكوت أحد المتناظرين عن الجواب لا يعد انقطاعا في التحقيق إلا بإقراره أو قرينة حالية ظاهرة ، وإلا فمجرد السكوت لا يدل على الانقطاع ، لتردده بين استحضار الدليل ، وترفعه عن الخصم ; لظهور بلادته ، أو تعظيمه ، أو إجلاله عن انقطاعه معه . والثاني : أنه إجماع وحجة . قال الباجي : وهو قول أكثر أصحابنا المالكيين ، والقاضي أبي الطيب ، وشيخنا أبي إسحاق ، وأكثر أصحاب الشافعي . انتهى .

وقال ابن برهان : وإليه ذهب كافة العلماء منهم الكرخي . ونص ابن السمعاني ، والدبوسي في التقويم " ، وقال عبد الوهاب : هو الذي يقتضيه مذهب أصحابنا . وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني عن الشافعي ، فإنه لما حكى القولين المتعاكسين في التفصيل بين الفتوى والحكم ، قال : وعلة كل واحد منهما يوجب أن لا يكون كل واحد منهما إجماعا ، وهذا مفسر بقول [ ص: 458 ] الشافعي : إن قول الواحد إذا انتشر فإجماع ، ولا يجوز مخالفته ، هذا كلامه . وقال النووي في شرح الوسيط " : لا تغترن بإطلاق المتساهل القائل بأن الإجماع السكوتي ليس بحجة عند الشافعي ، بل الصواب من مذهب الشافعي أنه حجة ، وإجماع . وهو موجود في كتب أصحابنا العراقيين في الأصول ، ومقدمات كتبهم المبسوطة في الفروع ، كتعليقة " الشيخ أبي حامد ، والحاوي " ، ومجموع المحاملي " . والشامل " وغيرهم . انتهى .

ويشهد له أن الشافعي رحمه الله تعالى احتج في كتاب الرسالة " لإثبات العمل بخبر الواحد وبالقياس أن بعض الصحابة عمل به ، ولم يظهر من الباقين إنكار لذلك ، فكان ذلك إجماعا ، إذ لا يمكن أن ينقل ذلك نصا عن جميعهم ، بحيث لا يشذ منهم أحد ، وإنما نقل عن جمع مع الاشتهار بسكوت الباقين لكنه صرح في موضع آخر من الأم " بخلافه ، فقال : وقد ذكر أن أبا بكر قسم فسوى بين الحر والعبد ، ولم يفضل بين أحد بسابقة ولا نسب ، ثم قسم عمر ، فألغى العبد ، وفضل بالنسب والسابقة ، ثم قسم علي فألغى العبيد ، وسوى بين الناس ، ولم يمنع أحد من أخذ ما أعطوه . قال : وفيه دلالة على أنهم مسلمون لحاكمهم ، وإن كان رأيهم على خلاف رأيه . قال : فلا يقال لشيء من هذا إجماع ، ولكن ينسب إلى أبي بكر فعله ، وإلى عمر فعله ، وإلى علي فعله ، ولا يقال لغيرهم ممن أخذ [ ص: 459 ] منهم موافقة ولا اختلاف ، ولا ينسب إلى ساكت قول ولا عمل ، وإنما ينسب إلى كل قوله وعمله .

وفي هذا ما يدل على أن ادعاء الإجماع في كثير من خاص الأحكام ليس كما يقول من يدعيه . ا هـ وحينئذ فيحتمل أن يكون له في المسألة قولان ، كما حكاه ابن الحاجب وغيره . ويحتمل أن ينزل القولان على حالين ، فقول النفي على ما إذا صدر من حاكم ، وقول الإثبات على ما إذا صدر من غيره ، والنص الذي سقناه من الرسالة " شاهد لذلك ، وهو يؤيد تفصيل أبي إسحاق المروزي الآتي . وذكر بعض المتأخرين في تنزيل القولين طريقين : أحدهما : حيث أثبت القول بأنه إجماع ، أراد بذلك عصر الصحابة ، كما استدل به لخبر الواحد والقياس ، وحيث قال : لا ينسب لساكت قول أراد بذلك من بعدهم .

وهذا أولى من أن يجعل له في المسألة قولان متناقضان ، كما ظن الإمام فخر الدين في المعالم " ، ويشهد لهذا ما سيأتي من كلام جماعة تخصيص المسألة بعصر الصحابة . والثاني : أن يحمل نفيه على ما لم يكن من القضايا التي تعم بها البلوى ، ويحمل القول الآخر على ما إذا كانت كذلك ، كما اختاره الإمام الرازي ; لأن العمل بخبر الواحد وبالقياس مما يتكرر ، وتعم به البلوى . وكل من هذين الطريقين محتمل . وقد ذكر ابن التلمساني الثاني منهما . قلت : النص الذي سقناه من الأم يدفع كلا من الطريقين ، فإنه نفاه [ ص: 460 ] في عصر الصحابة ، وفيما تعم به البلوى ، ويحتمل ثالثة : وهي التعميم .

وقال ابن القطان : هو في معنى الإجماع ، وإن كنا نسميه إجماعا ، فهو من طريق الاستدلال ، ولا يعارض هذا قول الشافعي : من نسب إلى ساكت قولا فقد أخطأ ، فإنا لم نقل : إنهم قالوا : وإنما نستدل به على رضاهم ; لأن الله وصف أمتنا بأنهم آمرون بالمعروف ، ناهون عن المنكر ، ولو كان هذا القول خطأ ، ولم ينكره ، لزم وقوع خلاف الخبر . وقال الرافعي في الشرح " : المشهور عند الأصحاب أن الإجماع السكوتي حجة . وهل هو إجماع ؟ فيه وجهان ولم يرجح شيئا . والراجح أنه إجماع . فقد قال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع " إنه المذهب . وقال الروياني في أوائل البحر " : إنه حجة مقطوع بها . وهل يكون إجماعا ؟ فيه قولان . وقيل : وجهان . أحدهما : - وبه قال الأكثرون - إنه يكون إجماعا ; لأنهم لا يسكتون على المنكر . والثاني : المنع ; لأن الشافعي - رحمه الله - قال : لا ينسب إلى ساكت قول . قال : وهذا الخلاف راجع إلى الاسم ; لأنه لا خلاف أنه حجة يجب اتباعه ، ويحرم مخالفته قطعا . وقال الخوارزمي في الكافي " : إذا لم ينقل عنهم رضا ولا إنكار وانقرض العصر ، فذهب بعض إلى أن قوله ليس بإجماع ولا حجة . وقال عامة أصحابنا : حجة ; لأن سكوتهم حتى انقرضوا مع إضمارهم الإنكار بعيد . وهل يكون إجماعا ؟ فيه وجهان . ونحوه قول الأستاذ أبي إسحاق : اختلف أصحابنا في تسميته إجماعا ، مع اتفاقهم على وجوب العمل به ، والقطع به على الله تعالى .

[ ص: 461 ] وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في أول تعليقه في الفقه " : هو حجة مقطوع بها وفي تسميته إجماعا وجهان . أحدهما : المنع وإنما هو حجة كالخبر . والثاني : يسمى إجماعا ، وهو قول لنا . ا هـ . قال ابن الرفعة في المطلب " : الذي صرح به الفرعيون من أصحابنا في أوائل كتبهم أنه حجة . وقال الرافعي : المشهور أنه حجة ، وهل هو إجماع أم لا ؟ فيه وجهان . الثالث : أنه حجة ، وليس بإجماع . وحكاه أبو الحسين في المعتمد " عن أبي هاشم . وهو أحد الوجهين عندنا كما سبق من كلام الرافعي وغيره . ونقله الشيخ في اللمع " ، وابن برهان عن الصيرفي ، وكذا رأيته في كتابه فقال : هو حجة لا يجوز الخروج عنه ، ولا يجوز أن يقال : إنه إجماع مطلقا ; لأن الإجماع ما علمنا فيه موافقة الجماعة قرنا بعد قرن .

وإنما قيل بهذا القول ; لأن الخلاف معدوم ، والقول في أهل الحجة شائع . انتهى . وكذا قال في شرح الرسالة " : عمل الصحابي منتشر في الصحابة لا ينكره منكر حتى انقرض العصر ، فهو حجة لا يجوز خلافه ، لا من جهة الاتفاق ، ولكن لعدم الخلاف من أهل الحجة . واختاره الآمدي ، ووافقه ابن الحاجب في الكبير " . وردد في الصغير " اختياره بين أن يكون إجماعا أو حجة . وقيد الآمدي هذا في موضع آخر بما قبل انقراض أهل العصر ، فأما بعده ، فإنه يكون إجماعا . [ ص: 462 ] وذكر الشيخ أبو حامد الإسفراييني ، والقاضي أبو الطيب : أن معتمد القائلين بهذا من أصحابنا قول الشافعي : لا ينسب إلى ساكت قول ، وليعلم أن المراد بالخلاف هنا وأنه ليس بإجماع ، أي قطعي ، وبذلك صرح ابن برهان عن الصيرفي ، وكذا ابن الحاجب ، وإلا فمعلوم أن الإجماع حجة ، فكيف ينقسم الشيء إلى نفسه وقد سبق في أول الباب حكاية خلاف في أن لفظ الإجماع هل يطلق على القطعي والظني ، أو يختص بالقطعي ؟ والقائلون بأن السكوتي حجة مثيرة للظن اختلفوا في أنه قطعي أم ظني ؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق ، وأبو منصور البغدادي ، والبندنيجي : إنه مقطوع به ، أي أن حكم الله تعالى ما ظنناه ، لا القطع بحصول الإجماع ، وقال آخرون : بل ظني . تنبيه [ لم يقل أحد إنه إجماع لا حجة ] قال الهندي : لم يصر أحد إلى عكس هذا ، أعني إلى أنه إجماع ، لا حجة ويمكن القول به ، كالإجماع المروي بالآحاد عند من لم يقل بحجيته .

التالي السابق


الخدمات العلمية