صفحة جزء
تنبيهان الأول : [ قيود لا بد منها في الإجماع السكوتي ] لهذه المسألة قيود . الأول : أن يكون في مسائل التكليف ، فقول القائل : عمار أفضل من حذيفة ، لا يدل السكوت فيه على شيء إذ لا تكليف على الناس فيه . قاله ابن الصباغ في العدة " ، وابن السمعاني في القواطع " وأبو الحسين في المعتمد " ، وغيرهم . القيد الثاني : أن يعلم أنه بلغ جميع أهل العصر ، ولم ينكروا ، وإلا فلا يكون إجماعا سكوتيا . قاله الصيرفي وغيره ، ووراءه حالتان . إحداهما : أن يغلب على الظن بلوغهم . فقال الأستاذ أبو إسحاق : هو إجماع على مذهب الشافعي ، واختاره وجعله درجة دون الأول . والثاني : أن يحتمل بلوغه وعدمه ، فالأكثرون على أنه ليس بحجة . قالالطبري : ولهذا لم يستقم للحنفية الاحتجاج في وطء الثيب ، هل يمنع الرد بالعيب ؟ وقيل : حجة مطلقا ، وهو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب ، وحكاه عن مالك ، وفصل الرازي ، والبيضاوي ، والهندي بين أن يكون هذا القول مما تعم به البلوى ، كنقض الوضوء من مس الذكر ، كان كالسكوتي ، وإلا لم يكن حجة . [ ص: 471 ] وإذا قلنا : هو حجة ، فليس بالإجماع في قول الجمهور ، وقيل : إجماع لئلا يخلو العصر عن قائم بالحق .

وقال القاضي الحسين في تعليقه " : إذا قال الصحابي قولا ، ولم ينتشر فيما بينهم ، فإن كان معه قياس خفي ، قدم على القياس الجلي قولا واحدا ، وكذلك إذا كان معه خبر مرسل ، فإن كان متجردا عن القياس ، فهل يقدم القياس الجلي عليه ؟ فيه قولان : الجديد يقدم القياس ، وقال الروياني في البحر " : هذا إذا بلغ كل الصحابة ، فإن لم ينتشر في كلهم ، ولم ير فيه خلافا لمن بعدهم فليس بإجماع . وهل يكون حجة يعتبر بما يوافقه من قياس أو يخالف ؟ ففيه أربعة أحوال . أحدها : أن يكون القياس موافقا ، ثم يكون قوله حجة بالقياس . وثانيها : أن يكون مخالفا القياس الجلي ، فالقياس أولى . وثالثها : أن يكون معه قياس جلي ، ويخالفه قياس خفي ، فقوله مع القياس أولى . ورابعها : أن يكون مع قوله قياس خفي ، ويخالفه قياس جلي . قال في القديم : قوله مع القياس الخفي أولى وألزم من القياس الجلي ، وقال في الجديد : القياس الجلي أولى بالعمل من قوله مع القياس الخفي .

وقال الرافعي : هذا إذا نقل السكوت ، فإن لم ينقل قول ولا سكوت ، فيجوز أن لا يلحق بهذا ، ويجوز أن يستدل به على السكوت ; لأنه لو قال شيئا لنقل كما نقل اختلافهم في مسائل الاختلاف . وقال في باب الفرائض : إنه يترك للقول المنتشر - والحالة هذه - القياس الجلي ، ويعتضد به الخفي ، وقال النووي : المختار أن عدم النقل ، كنقل السكوت ; لأنه الأصل والظاهر . القيد الثالث : كون المسألة مجردة عن الرضى والكراهة . فإن ظهر عليهم الرضا بما ذهبوا إليه فهو إجماع بلا خلاف . قاله القاضيان الروياني [ ص: 472 ] في البحر " وعبد الوهاب من المالكية ، والخوارزمي في الكافي " ، وجرى عليه الرافعي .

وقضيته أنه إن ظهرت أمارات السخط لم يكن إجماعا قطعا ، وكلامهم صريح في جريان الخلاف فيه . أما إذا استصحب فعل يوافق الفتوى فالأمة حينئذ منقسمة إلى قائل وعامل وذلك إجماع فلا نزاع . ذكره القاضي عبد الوهاب في الملخص " . القيد الرابع : مضى زمن يسع قدر مهلة النظر عادة في تلك المسألة ، فلو احتمل أن الساكتين كانوا في مهلة النظر لم يكن إجماعا سكوتيا ، ذكره الدبوسي وغيره . القيد الخامس : أن لا يتكرر ذلك مع طول الزمان ، فإن تكررت الفتيا ، وطالت المدة مع عدم المخالفة ، فإن ظن مخالفتهم يترجح ، بل يقطع بها ، ذكره إمام الحرمين وإلكيا . قال : وقول الشافعي : لا ينسب إلى ساكت قول ، أراد به ما إذا كان السكوت في المجلس ، ولا يتصور السكوت إلا كذلك ، وفي غيره لا سكوت على الحقيقة . وصرح بذلك أيضا التلمساني في شرح المعالم " ، وأنه ليس من محل الخلاف ، بل هو إجماع وحجة عند الشافعي رحمه الله قال : ولهذا استدل على إثبات القياس وخبر الآحاد بذلك لكونه في وقائع . وتوهم الإمام في المعالم " أن ذلك تناقض من الشافعي .

وليس كذلك ، ولذلك جعل إمام الحرمين صورة المسألة ما إذا لم يطل الزمان مع تكرر الوقائع ، فإن تكررت مع الطول فقضية كلام القاضي جريان الخلاف فيه . القيد السادس : أن يكون قبل استقرار المذاهب . فأما بعد استقرارها فلا أثر للسكوت قطعا ، كإفتاء مقلد سكت عنه المخالفون للعلم بمذهبهم [ ص: 473 ] ومذهبه ، كشافعي يفتي بنقض الوضوء بمس الذكر ، فلا يدل سكوت الحنفي عنه على موافقته للعلم باستقرار المذاهب ، ذكره إلكيا الطبري وغيره . التنبيه الثاني أن لهم في تصوير المسألة طريقين إحداهما : جعل ذلك عاما في حق كل عصر من المجتهدين وهو الذي صرح به الحنفية في كتبهم ، وإمام الحرمين في البرهان " ، والشيخ في شرح اللمع " ، والرازي في كتبه وسائر أصحابه ، والآمدي ، وابن الحاجب ، والقرافي من المالكية وغيرهم . وقال النووي في شرح الوسيط " : إذا انتشر قول التابعي ، ولم يخالف ، فالصحيح أنه كالصحابي . وقيل : ليس بحجة قطعا . قال صاحب الشامل " : الصحيح أنه إجماع . هذا هو الذي صححه ، وهو الأظهر ; لأن المعنى المعتبر في الصحابة موجود فيهم ، فإن لم ينتشر قول التابعي ، فليس بحجة بلا خلاف . انتهى .

الثانية : قول من خص هذه المسألة ببعض الصحابة دون من بعدهم ، وهي طريقة القدماء من أصحابنا وغيرهم ، منهم الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه " ، والماوردي في الحاوي " ، والصيرفي وابن القطان في كتابيهما في أصول الفقه ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وابن الصباغ في العدة " وإلكيا ، والغزالي في المستصفى " والمنخول " وابن برهان ، [ ص: 474 ] والخوارزمي في الكافي " ، وأبو الحسين في المعتمد " ، والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، واختاره القرطبي من متأخريهم ، والموفق الحنبلي في الروضة " ، وابن السمعاني ، ثم قال في أثناء المسألة : وخصصها بعض أصحابنا بعصر الصحابة ، وأما التابعون ومن بعدهم ، فلا . قال : ولا يعرف فرق بين الموضعين ، والأولى التسوية بين الجميع . وأما صاحب المحصول " ، فأطلق المسألة ، ثم لما انتهى إلى فروع انتشار القول واحتمال بلوغه للباقين خصه بالصحابة . وتوهم البيضاوي ، والهندي أن هذا القيد لا يحتاج إليه ، وأن الفرع غير مختص بالصحابة ، ويدل عليه نقل ابن السمعاني ، والمعنى فيه أن السكوت دليل الرضا ، فانتهض في الإجماع . والثانية : وهي هذا الفرع يختص بهم ; لأن قول البعض ليس بحجة على قول البعض ، فلا وجه لهذا القول إلا إذا كان القائل صحابيا ، فيقع الخلاف ناشئا عن أقوال الصحابة ، هل هي حجة ؟ ولذلك أشار القاضي ، والشيخ أبو إسحاق ، وغيرهما ، إلى أن هذا الفرع هو نفس الكلام في أن قول الصحابي هل هو حجة أم لا ؟ وأجروا الكلام فيه إلى موضعه . والحاصل أنه إن عرف بلوغه الجميع فمسألة السكوتي ، وإن ظن ففيها خلاف مفرع على مسألة السكوتي ، كما قاله الأستاذ ، وإن كان محتملا فهي هذه المسألة ، ولا وجه للقول بالحجية فيها إلا إن كان من صحابي ، بناء على أن قوله حجة ، ومن عمم القول فيها لم يصب ، وإن لم يكن محتملا أصلا فلا وجه . [ ص: 475 ] وقيل بل تخصيص المسألة بعصر الصحابة كما فعله الأقدمون أظهر من الطريقة الأولى ; وذلك لأن من قال : يكون حجة لا إجماعا ، إنما يتوجه فرضه في حق الصحابة ; لأن منصبهم لا يقتضي السكوت عن مثل ذلك مع مخالفتهم فيه ، وهذا لا يجيء في حق غيرهم .

كيف والتعلق هنا إنما هو بقول المفتي والحاكم فقط ; لأنه مبني على أن الساكت لا ينسب إليه قول ، كما نقله الإمام عن الشافعي . ولا حجة في قول أحد من المجتهدين بعد الصحابة بالاتفاق . فإذا لم يكن إجماعا فكيف يكون حجة بخلاف ما إذا كان ذلك قول صحابي ، فإن ذلك إذا لم يكن سكوتهم عن مثله إجماعا فيصلح للاحتجاج .

التالي السابق


الخدمات العلمية