صفحة جزء
المسألة الرابعة : إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين ، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث ؟ فيه مذاهب : [ ص: 517 ] الأول : المنع مطلقا ، وهو كاتفاقهم على أن لا قول سوى هذين القولين . قال الأستاذ أبو منصور : وهو قول الجمهور ، وقال إلكيا : إنه الصحيح ، وبه الفتوى ، وقال ابن برهان : إنه مذهبنا ، وجزم به القفال الشاشي في كتابه ، والقاضي أبو الطيب ، وكذا الروياني ، والصيرفي ، ولم يحكيا مقابله إلا عن بعض المتكلمين . قال الصيرفي : وقد رأيته موجودا في فتيا بعض الفقهاء من المتأخرين ، فلا أدري أكان قال هذا مناقضة ، أو غلطا ، أو كان يذهب إلى هذا المذهب . وكذلك ابن القطان ، لم يحك مقابله إلا عن داود ، فقال : إذا اختلف الناس في حد السكر ، فقيل : ثمانون ، وقيل : أربعون ، فهو إجماع على نفي ما عداهما ، وقال داود : لا يكون هذا إجماعا ; لأنها قد وقعت مخالفة ، فيجب أن يكون حكم الله فيها الاختلاف . قال : وهذا ليس بشيء ; لأن الموضع الذي اختلفوا فيه غير الذي اتفقوا عليه . وقال صاحب الكبريت الأحمر " : هو مذهب عامة الفقهاء ، ونص عليه الشافعي - رحمه الله في رسالته " ، وكذا ذكره محمد بن الحسن في نوادر هشام " ; لأنه عد الأصول ، وعد في جملتها اختلاف الصحابة .

والثاني : الجواز مطلقا . قال القاضي أبو الطيب : رأيت بعض أصحاب أبي حنيفة يختاره وينصره [ ص: 518 ] ونقله ابن برهان ، وابن السمعاني عن بعض الحنفية ، والظاهرية ، ونسبه جماعة منهم القاضي عياض إلى داود . قال : ثم ناقض فشرط الولي في صحة عقد البكر دون الثيب ، مع أن الخلاف هل يلزم فيهما ، أو لا يلزم فيهما ؟ وأنكر ابن حزم على من نسبه لداود ، وإنما قال كلاما معناه : أن القولين إذا رويا ، ولم يصح أنهم أجمعوا عليهما ، ولم يرد عن جماعة منهم أو واحد إنكار ولا تصويب ، أن لمن جاء بعدهم أن يأتي بقول ثالث يدل عليه النص أو الإجماع ، فهذا ما قاله أبو سليمان ، فكيف يسوغ أن ينسب هذا إليه ، وهو يقول : إن الأمة إذا تفرقت على قولين ، وكانت كل طائفة منهم قد قرنت بقولها في تلك المسألة مسألة أخرى ، فإنه ينبغي أن يحكم لتلك المسألتين بحكم واحد ، فإن صحت إحدى المسألتين فالأخرى صحيحة ، ولذلك حكم بالتحليف بمكة عند المقام لإجماع القائلين بذلك على التحليف عند المنبر ، فيصح وجوبه عند الزحام بمكة .

قال ابن حزم : وهذا القول وإن كنا لا نقول به ، فقد قاله أبو سليمان ، وأردنا تحرير النقل عنه ، وإنما قال : إن الخلاف إذا صح فالإجماع على بعض تلك الأقوال المختلف فيها لا يصح أبدا ، وصدق في ذلك . وهذا كالخلاف في حد شارب الخمر ، قيل : لا حد عليه ، وقيل : أربعون ، وقيل : ثمانون . فهذا لا ينعقد عليه إجماع أبدا .

والثالث : وهو الحق عند المتأخرين أن الثالث إن لزم منه رفع ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه ، وإلا جاز ، وكلام الشافعي في الرسالة " يقتضيه ، حيث قال في أواخرها : القياس تقدم الأخ على الجد ، لكن صدنا عن القول به أني وجدت المختلفين مجتمعين على أن الجد مع الأخ مثله أو أكثر حظا [ ص: 519 ] منه ، فلم يكن لي عندي خلافهم ، ولا الذهاب إلى القياس ، والقياس مخرج من جميع أقاويلهم . ا هـ . وإنما منعه ; لأن في إحداث قول ثالث رفعا للإجماع ، وأما حيث لا رفع فتصرفه يقتضي جوازه ، وقضية كلام الهروي في الإشراف " أنه مذهب الشافعي ، فإنه قال : ومن لفق من القولين قولا على هذا الوجه لا يعد خارقا للإجماع كما ذكرنا في وطء الثيب ، هل يمنع الرد بالعيب ؟ تحزبت الصحابة حزبين : ذهبت طائفة إلى أنه يردها ، ويرد معها عقرها ، وذهب حزب إلى أنه لا يرد ، فأخذ الشافعي في إسقاط العقر بقول حزب ، وفي تجويز الرد بقول حزب ، ولم يعد ذلك خرقا للإجماع . ا هـ .

ولعله مبني على أنه لا يجوز حدوث إجماع بعد إجماع سابق على خلافه . فإن قلنا بالجواز ، كما ذهب إليه البصري ، فالظاهر الجواز ، لكنه لا يقع . وقد اعترض بعض الحنفية على اختيار الثالث ، وقال : لا معنى له ; لأنه لا نزاع في أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه كان مردودا ، والخصم يستلزم هذا ، لكن يدعي أن القول الثالث يستلزم إبطال ما أجمعوا عليه في جميع الصور ، إما في صورة واحدة كما في مسألة العدة وحرمان الجد ، وإما في مجموع المسألتين في مسألة الزوج ، والزوجة مع الأبوين أحد الشمولين ثابت ، وهو ثلث الكل في كليهما ، أو ثلث الباقي في كليهما . فثلث في أحدهما دون الآخر خلاف الإجماع .

قال : فالشأن في تمييز صورة يلزم منها بطلان الإجماع عن صورة لا يلزم ذلك ، فلا بد من ضابط ، وهو أن القولين إن اشتركا في أمر هو في الحقيقة واحد ، وهو من الأحكام الشرعية ، فحينئذ يكون الثالث مستلزما لإبطال الإجماع وإلا فلا ، وعند ذلك فالمختلف فيه إما حكم يتعلق بمحل واحد ، كمسألة الجد مع [ ص: 520 ] الإخوة والعدة ، أو متعدد . فإن كان الثابت عن البعض الوجود في صورة مع العدم في الأخرى ، وعند البعض عكس ذلك ، كمسألة الخروج والمس ، فإن القول بأن كلا منهما ناقض أو ليس بناقض ، لا يكون خلاف الإجماع .

تنبيهات . الأول : ذكر القولين مثال ، فالثلاثة وأكثر كذلك ، كما قاله الصيرفي ، ومثله بأقوالهم في الجد . قال : فلا يجوز إحداث قول سوى ما تقدم ; لأنه كاتفاقهم على أنه لا قول سوى هذه الأقوال . الثاني : أن الصيرفي أيضا فرض المسألة في اختلاف الصحابة ، فقد توهم التفصيل بين ما أجمع على أنه حجة فيمتنع فيه الإحداث دون غيره ، وليس ببعيد . الثالث : أنه نبه أيضا على تصورها بالاختلاف المستفيض فيهم . قال : فأما ما حكى من فتوى واحد ، ولم يستفض قوله ، فيجوز الخروج عنه إلى ما أيده دليل ، ويخرج منه مذهب آخر مفصل بين الإجماع السكوتي وغيره . الرابع : قال العبدري : إنما يصح فرض هذه المسألة على مذهب من يجوز الإجماع عن اجتهاد وقياس ، وعلى أن تكون اجتهادية يتجاذبها أصلان ، فيجمع الصحابة على أنه يجوز أن يلحق بهذا الأصل ، فيكون حلالا ، ويجوز أن يلحق بهذا الأصل ، فيكون حراما ، فإذا لم ينقرض إلا على هذا الوجه ، فإحداث قول ثالث ورابع وأكثر جائز ; لأنها اجتهادية ، ولا حصر في المجتهدات .

وأما إذا كان معنى قولهم : إذا أجمع الصحابة على قولين أجمع هؤلاء على قول ، وخطئوا من خالفه ، وأجمع هؤلاء على قول آخر وخطئوا من [ ص: 521 ] خالفه ، فليس بإجماع ، ولكنه خلاف صحيح ، وإذا لم يكن إجماعا فإحداث قول ثالث أو رابع وأكثر فجائز أيضا ، وبالجملة فلم يأخذوا في هذه المسألة الإجماع الشرعي ، بل اللغوي ، وفيما قاله نظر . الخامس : لم يتعرضوا لهذه المسألة بالنسبة إلى عصر واحد ، بأن يختلف الصحابة على قولين ، ثم يحدث بعضهم قولا ثالثا ، والقياس التفصيل بين أن لا يستقر الخلاف فيجوز ، وبين أن لا يستقر ، فينبني على الخلاف في انقراض العصر ، فإن قلنا : شرط جاز ، وإلا فلا ، ولو أدرك بعض التابعين عصر الصحابة ، فأحدث ثالثا ، فالقياس بناؤه على الوجهين في الانقراض أو على الوجهين في قول التابعي مع الصحابة ، وهل يعتد به ؟ ومثاله ما لو وجد ماء لا يكفيه للوضوء فهل يقتصر على التيمم ، أو يستعمله ويتيمم ؟ قولان للصحابة ، فأحدث الحسن قولا ثالثا ، فقال : يستعمل ما معه ثم يجمع ما يتساقط . من الماء فيعمل به .

التالي السابق


الخدمات العلمية