صفحة جزء
النوع الثاني قياس الشبه قالا : وهو ما أخذ حكم فرعه من شبه أصله ، وقالا في موضع آخر : هو ما تجاذبه الأصول فأخذ من كل أصل شبها ، وسماه الشيخ أبو إسحاق وغيره " قياس الدلالة " وفسره بأن يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه على العلة التي علق الحكم عليها في الشرع قال : وهذا الضرب لا تعرف صحته إلا باستدلال الأصول وهو على ثلاثة أضرب : أحدها : أن يستدل بثبوت حكم من أحكام الفروع على ثبوت الفرع ، ثم رد إلى أصل ، كاستدلالنا على سجود التلاوة ليس بواجب ، بأن سجودها يجوز فعله على الراحلة من غير عذر على أنه ليس بواجب .

والثاني : أن يستدل بحكم يشاكل حكم الفرع ويجري مجراه على حكم الفرع ، ثم يقاس على أصل ، كقولنا في ظهار الذمي : صحيح لأنه يصح طلاقه ، فيصح ظهاره ، فصحة قياس الطلاق على صحة الظهار لأنهما يجريان مجرى واحدا ، ألا ترى أنهما يتعلقان بالقول ويختصان بالزوجة ، فإذا صح ذلك دل على صحة الآخر .

والثالث : أن يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه ، كقياس من قال : إن العبد يملك . لأنه آدمي مخاطب مثاب معاقب ، فملك كالحر . [ ص: 54 ]

قال : فهذا وأمثاله يسمى " قياس الشبه " وفي صحته وجهان : أحدهما : يصح ، لأن عمر أمر أبا موسى باعتباره ، والثاني : المنع ، لأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل بالشبه لوجب أن يصح كل قياس لأنه ما من فرع إلا ويمكن رده إلى أصل بضرب من الشبه . انتهى . وقال الشيخ في " اللمع " : اختلف أصحابنا في قياس الشبه ، وهو تردد الفرع بين أصلين لشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف والآخر من وصفين فقيل : صحيح ، وللشافعي ما يدل عليه في أوائل " الرسالة " وأواخرها . وقيل : لا يصح ، وتأول ما قاله الشافعي على أنه أراد به أن يرجح به قياس بكثرة الأشباه . ثم اختلف القائلون به في أنه هل يجب أن يكون حكما وأن يكون صفة ؟ على قولين قال : والأشبه عندي أن قياس الشبه لا يصح .

وقال ابن القطان : قياس الشبه اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الشبه يعتبر في الصورة أخذا من قول الشافعي في الجنايات إن العبد إذا جني عليه اعتبرت قيمته بالحر لوقوعه بين أصلين :

أحدهما : البهيمة ، لأنه سلعة فيتصرف فيها .

والثاني : الحر لأنه آدمي متعبد . وقيل : هذا خطأ ، لأن القياس لا يصح حتى تستخرج العلة من المنصوص عليه ، فيؤخذ في الفرع أكثر الأوصاف ، فيلحق حكمه بحكم ذاك الأصل ، وهذا لا ينقض به حكم الحاكم إذا خالف . وإن كان هناك [ ص: 55 ] علة أخرى توجب التحليل بها خمسة أوصاف ، وعلة توجب التحريم بها خمسة أوصاف فيوجد فيها من أوصاف العلة المبيحة أكثر من المحرمة فيلحق ذلك بحكم التعليل ، لأنه أكثر شبها . فإنه لو قيل : فما تقولون لو تساوى الجريان في الأصلين وتساوت الأوصاف ؟ قلنا : عنه جوابان أحدهما : يتوقف فيه لأنهما يتساويان وليس لأحدهما مزية على الآخر ، وهذا أشبه من الأول .

والثالث : أن قياس الشبه أن تكون المسألة محتملة فتتحد بها فتقوم الدلالة على إلحاقها بأحد الأصول هو الأشباه . انتهى .

وقد وقع في كلام الشافعي رحمه الله ذكر " قياس علة الأشباه " فقيل هو قسيم " قياس العلة " وقيل هو " قياس العلة " إلا أنه جعل كثرة الأشباه ترجيحا للعلة وقال القاضي في " التقريب " : ظاهر نص الشافعي يدل على الأول قال : وحكى أن أبا العباس بن سريج كان يقول : إن غلبة الأشباه هي العلة وإن الأشباه ثلاثة ما حكم فيه بالتحريم وله وصفان ، وما حكم فيه بالتحليل وله وصف واحد وواسطة بينهما لم يحكم فيه بشيء . قال : فإذا تردد بينهما كان رده إلى أشبههما أولى من رده إلى أبعدهما منه في الشبه . قال القاضي : وهذا محتمل لأن يكون ممن يرى الحكم بغلبة الأشباه من غير اعتقاد كونه علة ، ويحتمل أن يريد أن ردها إلى ما هو علة الحكم أولى من رده إلى ما بعد أن يكون علة . وقد قيل : إن هذا الذي كان يذهب إليه أبو العباس وأنكر القياس على شبه لم يعتبر كونه علة وقال الخفاف في " الخصال " : علة غلبة الأشباه صحيحة ، والحكم بها جائز إذا كانت علة ما وصفنا ، غير أنه لا يجوز الحكم فيها مع وجود العلة المستخرجة .

وأما الماوردي والروياني ففسرا قياس الشبه بما تقدم ، وقسماه إلى نوعين : قياس تحقيق يكون الشبه في أحكامه ، وقياس تقريب يكون الشبه في أوصافه . وقياس التحقيق مقابل لقياس المعنى الخفي وإن ضعف عنه . [ ص: 56 ]

( الأول ) قياس التحقيق وهو ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يتردد حكم فرع بين أصلين فينتقض برده إلى أحدهما ولا ينتقض برده إلى الآخر ، فيرده إلى الأصل الذي لا ينتقض برده إليه ، وإن كان أقل شبها دون الآخر ، وإن كان أكثر شبها ، كالعبد يملك ، يتردد بين البهيمة والحر فلما انتقض رده إلى الميراث حيث لم يملك به وجب رده إلى البهيمة لسلامته من النقض ، وإن كان شبهه بالأحرار أكثر .

والثاني : أن يتردد الفرع بين أصلين ، فيسلم من النقض رده إلى كل واحد منهما ، وهو بأحد الأصلين أكثر شبها ، مثل أن يشبه أحدهما من وجه والآخر من وجهين ، أو أحدهما من وجهين والآخر من ثلاثة ، فيرد إلى الأكثر . مثاله في الجناية على طرف العبد فيردده بين رده إلى الحر وإلى البهيمة ، وهو يشبه البهيمة في أنه مملوك ، ويورث عينه ، ويشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مكلف يجب في قتله القود والكفارة وجب رده إلى الحر في تقدير أرش طرفه دون البهيمة لكثرة شبهه بالحر .

الثالث : أن يتردد حكم الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين ، ويوجد في الفرع بعض كل واحد من الصفتين والأقل من الأخرى ، فيجب رده إلى الأصل الذي فيه أكثر صفاته ، مثاله ثبوت الربا في السقمونيا ، لما تردد بين الخشب في الإباحة ، لأنه ليس بغذاء ، وبين الطعام في التحريم ، لأنه مأكول ، فكان رده إلى الغذاء في التحريم وإن لم يكن غذاء أولى من رده إلى الخشب في الإباحة وإن لم يكن غذاء لأن الأكل أغلب صفاته .

الثاني : قياس التقريب وهو ثلاثة أضرب :

أحدها : تردد الفرع بين أصلين مختلفين صفة ، وقد جمع الفرع معنى الأصل فيرجع في الفرع إلى أغلب الصفتين ، مثاله في المعقول أن يكون أحد الأصلين معلولا بالبياض والآخر معلولا بالسواد ، ويكون الفرع جامعا بين [ ص: 57 ] السواد والبياض فيعتبر بحاله ، فإن كان بياضه أكثر من سواده رد إلى الأصل المعلول بالبياض ولم يكن للسواد فيه تأثير ، وإن كان سواده أكثر من بياضه رد إلى الأصل المعلول بالسواد ولم يكن للبياض فيه تأثير ، ومثاله في الشرع الشهادات ، أمر الله تعالى فيها بقبول العدل ورد الفاسق ، وقد علم أن أحدا غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يمحض الطاعة حتى لا يشوبها شيء ويخرمها ، فوجب اعتبار الأغلب في حالتيه : فإن كانت الطاعات أغلب حكم بعدالته ، أو المعاصي أغلب حكم بفسقه . وقال أبو حنيفة رحمه الله : هذا الضرب لا يسمى قياسا ، لأن القياس ما استخرج علة فرعه من أصله ، وهذا قد استخرج علة أصله من فرعه ، ولأن القياس إنما يصح إذا كان معنى الأصل موجودا بكماله من الفرع ، فإذا وجد بعض أوصافه لا يصح إلحاقه به . وهذا غلط لأن صفة العلة مستخرجة من الفرع وحكم العلة مستخرج من الأصل ، فالجمع بينهما موضوع بحكم العلة دون صفتها . وهذا كما تقول في الماء المطلق : إذا خالطه مائع طاهر كماء الورد ولم يغيره نظر : إن كان الماء أكثر حكمنا له بالتطهير وإن كان فيه ما ليس بمطهر ، وإن كان ماء الورد أكثر حكمنا أنه غير مطهر وإن كان فيه ماء طهور ، وأن الحادثة أشبهت كل واحد من الأصلين في بعض الأوصاف فلا بد من تعريف حكمها ، ولا يجوز إلحاقها بغير هذين الأصلين ، لأنه لا يجوز إلحاقها بما لا يشبهها وتركه ما يشبهها ، ولا إلحاقه بهما لتضادهما فكان أكثرها شبها أولى .

وقال القاضي أبو الطيب الطبري : هذا النوع في القياس ضعيف ، لأنه يقاس على ما يلحق به من غير علة ، وذلك لا يجوز ولا يخلو الوصف الذي أشبه الأصل فيه من أن يكون علة الأصل ، أو ليس بعلة ، فإن كان علة فهو قياس العلة لا قياس الشبه ، وإن لم يكن علة فلا يصح القياس بغير علة قال : ومعنى هذا عندك إذا تردد فرع بين أصلين وقاسه في كل واحد [ ص: 58 ] من الأصلين على أصله بعلة ظاهرها الصحة يحتاج إلى الترجيح لتغليب أحد الأوصاف لكثرة الشبه ، فيكون ذلك على سبيل الترجيح .

الثاني : أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين ، والصفتان معروفتان في الفرع ، وصفة الفرع تقارب إحدى الصفتين وإن خالفتها . مثاله في المعقول أن يكون أحد أصلين معلولا بالبياض ، والآخر بالسواد ، والفرع أخضر لا أبيض ولا أسود ، فرد إلى أقرب الأصلين شبها بصفتيه والخضرة أقرب إلى السواد ، ومثاله في الشرع قوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وليس المثل من النعم شبيها بالصيد في جميع أوصافه ولا منافيا له في جميعها ، فاعتبر في الجزاء أقرب الشبه بالصيد . وقال أبو حنيفة رحمه الله : مثل هذا لا يكون قياسا ، لأن القياس : ما وجدت أوصاف أصله في فروعه ، وأوصاف الأصل في هذا غير مقصودة في الفرع ، فصار قياسا بغير علة . وهذا غلط ، لأن الحادثة لا بد لها من حكم ، والحكم لا بد له من دليل ، فإذا لم يكن في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع دليل عليها لم يبق لها أصل غير القياس كما في أقربهما شبها بأصل هو علة القياس . وقد جعله بعض أصحابنا اجتهادا محضا ولم يجعله قياسا .

والثالث : أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفين ، والفرع جامع لصفتي الأصلين وأحد الأصلين من جنس الفرع دون الآخر . ومثاله أن يكون الفرع من الطهارة ، وأحد الأصلين من الصلاة ، والثاني من الطهارة . فيكون رده إلى أصل الطهارة لمجانسته أولى من رده إلى أصل الصلاة . ثم قالا : وهاهنا قسم رابع : اختلف أصحابنا في وروده ، وهو أن يتردد الفرع بين أصلين فيه شبه كل واحد من الأصلين ، ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء ، فمنع كثير من أصحابنا من وجوده وأحال تكافؤ الأدلة ، لأنه لا يجوز أن يتعبد الله العباد بما لم يوصلهم إلى علمه ، ولكن ربما خفي [ ص: 59 ] على المستدل لقصوره في الاجتهاد فإن أعوزه الترجيح بين أصلين عدل إلى التماس حكمه من غير القياس . وذهب الأكثرون إلى جواز وجوده ، لأنه لما جاز أن يكون من الأدلة غامضة لما علم فيها من المصلحة جاز أن يكون فيها متكافئة لما رآه من المصلحة أن يكون لها حكم مع التكافؤ . فعلى هذا اختلفوا في حكم ما تكافأت عليه الأدلة ، وتردد بين أصلين حاظر ومبيح على وجهين :

أحدهما : المجتهد بالخيار في رده إلى أي الأصلين شاء ، لأن الله تعالى لو لم يرد كل واحد منهما لنصب على مراده منهما دليلا . والثاني : يرده إلى أغلظ الأصلين حكما وهو الحظر دون الإباحة احتياطا ، لأن أصل التكليف موضوع للتغليظ .

قالا : فصار أقسام القياس على ما شرحنا اثني عشر قسما : ستة منها مختصة بقياس المعنى ، منها ثلاثة في الخفي . وستة مختصة بقياس الشبه ، منها ثلاثة في قياس التحقيق ، وثلاثة في قياس التقريب .

وذكر إمام الحرمين قياس التقريب بما حاصله يرجع إلى أنه استدلال من غير بناء فرع على أصل ، ومن جملة كلامه قال : قد ثبت أصول معللة اتفق القائسون على عللها ، فقال الشافعي : الحد في تلك الأصول معنوي ، وجعل الاستدلال قريبة منها وإن لم يكن بأعيانها حتى كأنها أصول معتمدة مثلا ، والاستدلال معتبر بها ، واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة لمعنى جامع . ثم مثل الإمام ذلك بتحريم وطء الرجعية بأنه معلل عند الشافعي بأنها متربصة في تبرئة الرحم وتسليط الزوج على رحمها في الزمان الذي تؤمر فيه بالتربص للتبرئة تناقض ، وهذا معنى [ ص: 60 ] معقول . وأن المرأة لو تربصت قبل الطلاق واعتزلها الزوج لم يعتد بذلك عنده ، ولو طلب الشافعي لهذا أصلا لم يجده ، ولكنه قريب من القواعد . ومن قاس الرجعية على البائن لم يتم له ذلك ، لأن المخالف يقول : البينونة هي المستقلة بتحريم الوطء والرجعية ليست مثلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية