صفحة جزء
النوع الثالث قياس العكس وهو إثبات نقيض الحكم في غيره لافتراقهما في علة الحكم ، كذا عرفه صاحب " المعتمد " " والأحكام " وغيرهما . وقال الأصفهاني : إنه غير جامع ، لأنه من جملة أنواع العكس الملازمة الثابتة بين الشيئين : الملزوم نقيض المطلوب ، واللازم منتف . والدليل على الملازمة القياس ، كقولنا : لو لم تجب أولا على الصبي لما وجبت على البالغ ، قياسا على الوجوب على الصبي ، واللازم منتف إجماعا فينتفي الملزوم . انتهى وقد وقع في الكتاب والسنة استعمال هذا النوع ، قال الله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وقال صلى الله عليه وسلم : { وفي بضع أحدكم صدقة ، قالوا : يا رسول الله ، يأتي أحدنا شهوته ويؤجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام يعني : أكان يعاقب ؟ قالوا : نعم ، قال : فمه يعني : أنه إذا وضعها في حرام يأثم ، كذلك إذا وضعها في حلال } فقد [ ص: 61 ] جعل النبي صلى الله عليه وسلم نقيض حكم الوطء المباح وهو الإثم في غيره وهو الوطء الحرام ، لافتراقهما في علة الحكم وهو كون هذا مباحا وهذا حراما . وقد اختلف في تسميته قياسا فقيل : إنه قياس حقيقة ، وقال صاحب " المعتمد " هو قياس مجازا ، وقيل : لا يسمى قياسا ، وبه صرح ابن الصباغ في " العدة " ، لأن غايته تمسك بنظم التلازم وإثبات لإحدى مقدمته بالقياس . وذكر الشيخ أبو إسحاق في " الملخص " أن الشافعي رحمه الله تعالى احتج به على أبي حنيفة في إبطال علته في الربا في الأثمان فقال : لو كان الفضة والحديد يجمعهما علة واحدة في الربا لم يجز استلام أحدهما في الآخر ، وكذلك الحنطة والشعير لو جمعهما علة واحدة لم يجز استلام . أحدهما في الآخر ، فلما جاز بالإجماع استلام الفضة في الحديد دل على أنه لم يجمعهما علة واحدة .

قال : واختلف أصحابنا في الاستدلال به على وجهين : أحدهما : أنه لا يصح ، " وأصحهما " وهو المذهب أنه يصح . وقد استدل به الشافعي في عدة مواضع ، والدليل عليه أن الاستدلال بالعكس استدلال بقياس مدلول على صحته بالعكس ، وإذا صح القياس في الطرد وهو غير مدلول على صحته فلأن يصح الاستدلال بالعكس وهو قياس مدلول على صحته أولى ، ويدل عليه أن الله تعالى دل على التوحيد بالعكس فقال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } ودل على أن القرآن من عنده بالعكس ، قال تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } .

قلت : وقد احتج به الشافعي في " المختصر " فقال في زكاة الخلطة : ولما لم أعلم مخالفا إذا كان ثلاثة خلطاء لو كان لهم مائة وعشرون أخذت منهم واحدة فصدقوا صدقة الواحد فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء الثلاثة الذين لو تفرق ما لهم كان فيهم ثلاث شياه لم يجز إلا أن [ ص: 62 ] يقولوا لو كانت أربعون بين ثلاثة كانت عليهم شاة لأنهم صدقوا الخلطاء صدقة الواحد . انتهى فقاس وجوب واحدة من أربعين لثلاثة خلطاء على سقوط اثنتين في مائة وعشرين لثلاثة خلطاء .

وحكى الشيخ أبو حامد في تعليقه " مناظرة جرت بين الشافعي ومحمد بن الحسن ، فقال الشافعي لمحمد بن الحسن : لا قود على من شارك الصبي ، فقال : لأنه شارك من لا يجري عليه القلم ، فقال له الشافعي : فأوجب القود على من شارك الأب لأنه شارك من جرى عليه القلم ، وإذا لم توجب على شريك الأب فهو ترك لأصلك .

قال أصحاب أبي حنيفة : هذا السؤال لا يلزم محمدا ، لأن محمدا علل بأنه شارك من لا يجري عليه القلم ، فنقيضه أنه يوجد من شارك من لا يجري عليه القلم ومع هذا يجب عليه القود ، فأما من شارك الأب فهو عكس علته ، لأنه شارك من يجري عليه القلم .

أجاب أصحابنا عن هذا ، فقال الشيخ أبو علي بن أبي هريرة : هذا يلزم محمد بن الحسن ، وذلك أن العلة على ضربين : علة للأعيان ، وعلة للجنس ، فإذا كانت العلة للأعيان انقضت من وجه واحد وهو أن توجد العلة ولا حكم كقولك : لأنه مرتد فوجب أن يقتل ، فالنقض أن يوجد مرتد مع أنه لا يقتل . والثانية علة الجنس فهذه تنقض من وجهين : أن توجد العلة ولا حكم ، وأن يوجد الحكم ولا علة ، كقولك : علة القتل القتل ، فكأنه قال : لا قتل إلا بقتل ، فهذه تنقض بما قلناه : إن قتل بغير قتل انتقضت العلة ، وإن لم يقتل مع وجود القتل انتقضت العلة وإذا ثبت هذا فعلة محمد بن الحسن للجنس ، لأنه علل سقوط القود عن الشريك دون شريك من لا يجري عليه القلم ، فهذه للجنس فينتقض من وجهين : أن يوجد العلة ولا حكم وأن يوجد الحكم ولا علة فقد أوجد الحكم ولا علة فبطل قوله .

[ ص: 63 ] قال الشيخ أبو حامد : وكنت أجبت بجواب آخر ، وهو أن الشافعي ألزمهم العكس بناء على أصلهم ، لأن علة العكس عندهم دليل تناقضهم في العكس .

وجواب آخر جديد وهو أن محمد بن الحسن فرق بين مسألتين فطالبه الشافعي بالفرق بين شريك الصبي حيث قلت : لا قود عليه ، وقد قلت : إذا عفا الولي عن أحد القاتلين كان على شريكه القود ، فقال محمد : لأن شريك الصبي قد شارك من رفع عنه القلم وليس كذلك ما إذا عفا الولي عن أحدهما لأنه شارك من القلم جار عليه ، فقال الشافعي : هذا باطل بما إذا شارك الأب في قتل ولده ، لأنه شارك من القلم جار عليه ومع هذا لا قود عليه عندك .

فأما المزني فإنه تكلم على مسائل الشافعي فإنه قال : قد شرك الشافعي محمد بن الحسن فيما أنكر عليه فإنه أسقط القود عن شريك الخاطئ وأوجبه على شريك الصبي ومعناهما واحد . قلنا له : هذا على القولين إن قلنا في حكم الخطأ فلا قود على شريكه كمن شارك الخاطئ لأن معناهما واحد ، فإن قلنا عمده عمد ، فعلى شريكه القود ، لأن معناهما مختلف . ثم يقال للمزني : قد كسر الشافعي فرق محمد بن الحسن ، فأنت أوردت كلاما ينقض الكسر وإنما تناقض العلل ، فأما الكسر فلا يناقض ، فسقط ، هذا . وقال الشيخ أبو حامد في تعليقه " في باب مسح الخف ، في تعليل جواز الاختصار على الأسفل : لما كان أسفل الخف كظاهره في أنه لا يجوز المسح عليه إذا كان متمزقا وجب أن يكون أسفله كأعلاه في الاقتصار عليه بالمسح إذا كان صحيحا . ثم إن الشيخ أبا حامد رد هذا التعليل بأنه قياس عكس فكأنه رد قياس العكس .

التالي السابق


الخدمات العلمية