صفحة جزء
واعلم أنه لم يسم مركبا لاختلاف الحكمين في علة حكم الأصل فقط ، كما صار إليه بعضهم ، وإلا لكان كل قياس اختلف في علة أصله مركبا ، وهو باطل ، بل لاختلاف الخصم في تركيب الحكم على العلة في الأصل فإن المستدل . يزعم أن العلة مستنبطة من حكم الأصل وهي فرع له ، والمعترض يزعم أن الحكم في الأصل فرع على العلة ولا طريق إلى إثباته سواها ، ولذلك [ ص: 112 ] يمتنع ثبوته عند انتفائها وبطلانها . وإنما سمي تركيب الأصل لأنه نظر في حكم الأصل . وإن كان لعلة ، ولكن منع الخصم وجودها في الفرع فيسمى مركب الوصف لأجل اختلافهم في نفس الوصف الجامع هل له وجود في الأصل أم لا ؟ وسمي تركيبا في الوصف لأن الحكم الذي وقع التركيب في علته وقع جامعا في القياس فأطلق عليه وصفا لأن أصل الجمع بالأوصاف . ومثاله اختلاف أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما في قتل المسلم بالذمي مع اتفاقهما على أن الأب لا يقتل بالولد ، فإذا قاس الشافعي الفرع بالأصل أمكنه أن يجمع بينهما بحكم متفق عليه مختلف في علته ، وذلك الحكم كون المسلم لا يقتل بالذمي إذا قتله بالمثقل ، يلزم من ذلك أن لا يقتل به إذا قتله بالمحدد ، لأن الأب لا يقتل بابنه باتفاقهما محددا أو مثقلا . فالحاصل أنه أخذ من اجتماع الحكمين في الأب واستوائهما في حقه استواؤهما في حق المسلم والذمي ، لكن العلة مختلفة في قتل المسلم بالذمي بالمثقل : فعند أبي حنيفة لكونه مثقلا ، وعند الشافعي لعدم التكافؤ . وكلام الهندي يقتضي تخصيص القياس المركب بالأول فلم يذكر هذا الثاني ، والأصح تناوله للقسمين جميعا ، وعليه جرىالآمدي وابن الحاجب وغيرهما وقد اختلفوا فيهما ، فقبلهما جماعة ، والمختار أنهما لا يقبلان ، لأن الأول لا ينقل عن عدم العلة في الفرع أو منع حكم الأصل ، والثاني لا ينقل عن عدم العلة في الأصل أو منع حكم الأصل .

وقال إمام الحرمين في " البرهان " : أما مركب الأصل فمنه الشيء المتفاحش ومنه ما لا يتفاحش ، كقوله : أنثى فلا تزوج نفسها كبنت خمس [ ص: 113 ] عشرة ، فالذي ذهب إليه طوائف من الجدليين أنه صحيح ، وحاصل خلافهم يؤول إلى أن الحكم متفق عليه ، والمعلل يلتزم إثبات الأنوثة علة ، فإن أثبتها ثبت به أنها العلة ، وتشعب المذاهب بعد ذلك لا أصل له ، وإن لم يتمكن المعلل من إثبات ما ذكره في الفرع علة في الأصل فالذي جاء به باطل ، وإن لم يكن مركبا . فإذن لا تأثير للتركيب كان أو لم يكن ، وإنما المتبع إثبات علل الأصول قال : وهذا باطل عند المحققين ، فإن المخالف يقول : ظننت الخمس عشرة صغيرة ، ولو كانت كذلك لكان القياس على الصغيرة باطلا كما تقدم إلحاقا بالقياس على مألوف ، قال : وأما التركيب في الوصف فينقسم كذلك كقول الشافعي : قتل المسلم بالذمي لا يستوجب القصاص ، كقتل المثقل لا يوجب قتل السيف كالأب في ابنه ، وصححه بعض الجدليين وهو في غاية الفساد عندنا . وقال إلكيا في تعليقه " : لا يصح القياس في المركب ، لأنه لو صح لتركب عليه مسائل كثيرة ، ولو أن الأولين من الصحابة والسلف يتعرضون له ولم ينقل عنهم ، ونقل عن الداركي أنه قال : التركيب صحيح لكنه يمكن انتقاضه بأن يعارض بالتعدية .

قال أصحابنا : هذا غفلة منه ولعله قاله في ضيق النظر فاعترض عليه بأنه سلم لخصمه وجود علته وهي الأنوثة وهو لم يسلم وجود علته وهي الصغر . وأيضا فإنه علل وعدى إلى فرع لم يسأل عنه ، والمستدل علل وعدى فتكاسل عنه . قال إمام الحرمين : وهذا من الأصحاب غير صحيح ، [ ص: 114 ] والرجل ما قال ذلك إلا عن نظر وتحقيق . أما قولهم : إنه لم يسلم له خصمه وجود الصغر في الأصل ، وهو قد سلم له وجود الأنوثة ، فلهذا يبنى على أصل وهو أن السائل إذا عارض المستدل معارضته فهل له أن يدل ؟ اختلفوا فيه ، والصحيح أنه يمكن من إقامة الدليل ، لأنه لما عارض فقد نصب نفسه مستدلا فله إقامة الدليل . وهذا مبني على أنه إذا مونع وجود الصغر ذكر علته ويكفيه ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية