صفحة جزء
مسألة

في تعدد العلل مع اتحاد الحكم وعكسه : يجوز تعليل الحكم الواحد بالنوع المختلف بالجنس لشخص بعلل مختلفة بالاتفاق ، كتعليل إباحة قتل [ ص: 222 ] زيد بردته ، وعمرو بالقصاص ، وخالد بالزنى وممن نقل الاتفاق فيه الأستاذ أبو منصور البغدادي والآمدي والهندي وغيرهم ، وكلام المنهاج وغيره ظاهر في جريان الخلاف فيه . ولا وجه له . وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعلل مختلفة كل منها مستقل في إباحة الدم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل مؤمن بغير حق } . وأما تعليل الحكم الواحد في شخص بعلل مختلفة فلا خلاف في امتناعه بعلل عقلية ، كذا قيل ، لكن لأهل الكلام فيه خلاف حكاه القاضي في التقريب ثم قال : اختلفوا إذا وجب الحكم العقلي بعلتين ، فقيل : لا يرتفع إلا بارتفاعهما جميعا : وقيل : يرتفع بارتفاع إحداهما . واختلفوا في العلل الشرعية إذا ثبت كونها عللا بذلك من خارج ، هل يصح تعليل الحكم بها ؟ كمحصن زنى وقتل ، فإن الزنى يوجب القتل بمجرده ، فهل تعلل إباحة دمه بهما معا أم لا ؟ وكالعصير إذا تخمر ووقعت فيه نجاسة ، هل تعلل نجاسته بهما معا أم لا ؟ وكتحريم وطء المعتدة المحرمة الحائض على مذاهب : [ ص: 223 ]

أحدها : المنع مطلقا ، منصوصة ومستنبطة ، وبه جزم الصيرفي في الدلائل ، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن متقدمي أصحابهم ، واختاره الآمدي ونقله عن القاضي وإمام الحرمين ، وسيأتي تحرير مذهبهما . قال إلكيا الطبري : ونظيره ما قدمناه في الأسماء الشرعية أنه لا يتصور تقدير العموم في نفي الإجزاء والفضيلة والعموم الشرعي والحسي جميعا ، فإن انتفاء الشرعي يوجب ثبوت الحسي لا محالة ، فلا يتصور تقدير اجتماعهما .

والثاني : الجواز مطلقا وهو الصحيح وقول الجمهور كما قاله القاضي في التقريب ، ثم قال : وبهذا نقول بناء على أن العلل علامات وأمارات على الأحكام ، لا موجبة لها ، فلا يستحيل ذلك . هذا لفظه ، وقال ابن برهان في الوجيز : إنه الذي استقر عليه رأي إمام الحرمين . وقال ابن الرفعة في المطلب : كلام الشافعي في كتاب الإجارة من الأم عند الكلام على قفيز الطحان مصرح بجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين قال : وهو الذي يقتضيه قول عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه .

وتقديره : أنه لو لم يخف الله لم يعصه لإجلاله لذاته وتعظيمه ، فكيف وهو يخاف . وإذا كان كذلك كان عدم عصيانه معللا بالخوف والإجلال والإعظام ، وقد يكون الحكم معللا بعلتين ، كل واحدة منهما مستقلة في التعليل ويقصر على إحداهما لنكتة ، وذلك كقوله تعالى : { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } نهاهم عن أكله في هذه الحالة لأن النفوس لا تنفر منه وإن كان النهي لا يختص بها بل تحريم الضعف كتحريمه مضاعفا ، وقال الشافعي في الأم قبيل ما جاء في الصرف " : " إذا شرط في بيع الثمار السقي على المشتري فالمبيع فاسد من قبل أن السقي مجهول ولو كان معلوما أبطلناه من قبل أنه بيع وإجارة " انتهى فالبيع والإجارة موجود مع الجهالة وعدل عن التعليل بها في الحالتين ، لأن التعليل للبطلان [ ص: 224 ] بالجهالة أقرب إلى الأفهام من تعليله بالجمع بين البيع والإجارة ، ولولا هذا التنزيل لكان في هذا النص لمح لمنع التعليل بعلتين ، قلت : وقد قال في ، الأم ، وقد قال له بعض الناظرين : أفتحكم بأمر واحد من وجوه مختلفة ؟ " .

قلت : نعم إذا اختلفت أسبابه قال : فاذكر منه شيئا ، قلت : قد يقر الرجل عندي على نفسه بالحق أو لبعض الآدميين فآخذه بإقراره ، أو لا يقر فآخذه ببينة تقوم عليه ، أو لا تقوم عليه فيدعى عليه فآمره أن يحلف فيمتنع ، فآمر خصمه أن يحلف فآخذه بما حلف عليه وخصمه إذا أتى باليمين التي تبرئه " . انتهى . وقال بعض أئمة الحنابلة : الذي يقتضيه جواب أحمد في خنزير ميت وقد احتجوا بأن القياس من جملة الأدلة كالنص ، ويجوز أن يكون في الحادثة نصان فأكثر ، ولأنها أمارة على الحكم ، ويجوز اجتماع الأمارات .

والثالث : يجوز في المنصوصة دون المستنبطة وهو اختيار الأستاذ أبي بكر بن فورك والإمام الرازي وأتباعه . وينبغي أن يلحق بالمنصوصة المجمع عليها . قال إمام الحرمين : وللقاضي إليه صغو ظاهر في كتاب التقريب وهذا هو عمدة ابن الحاجب في نقله هذا المذهب في " مختصره " عن القاضي ، فاختلف النقل عنه على أن الموجود في التقريب له الجواز مطلقا ، وإليه يرشد كلام الغزالي في المستصفى وإن كان أطلق صريح الجواز في صدر المسألة إطلاقا ولا ينافيه قوله في الوسيط في الكلام على زوائد البيع : الحكم الواحد قد يعلل بعلتين لاحتمال إرادة تنزيله على المنصوصة ، أو لأنه أراد ما يريده الفقيه من أن كلا من الوصفين صالح لإفادة الحكم ، ومراده في المستصفى امتناع حصول العرفان بكل منهما على حدته ، أو التأثير بكل منهما فإنه يرى أن العلة مؤثرة بجعل الله والحاصل [ ص: 225 ] أنه تكلم في كل فن بحسبه فلا تظنه تناقضا .

والرابع : عكسه . حكاه ابن الحاجب وابن المنير في شرحه للبرهان وقد استغربت حكايته ، وسيأتي له نظير في النقض . وقال أبو الحسين في المعتمد : إن لم تكن إحداهما علة حكم الأصل جاز ، كاستحقاق القتل للردة والقصاص ، وفساد الصلاة للحدث والكلام إذا وجدا معا . وإن كانت إحداهما دليلا على حكم الأصل من غير أن يقاس بها على أصل آخر فهي موضع الخلاف .

وقال الإبياري في شرحه : إن كانت كل واحدة لو انفردت لكانت صحيحة فاجتماعهما غير مضر ولا مانع من التعليل ، ولكن قد يكون الإيراد يبين جانب التعليل وعند التعدد يقع الشك في النفس ، فيمتنع التعليل لعدم الدليل لا لضيق المحل عن العلل ، فأما العلل المؤثرة فلا يمتنع اجتماعها ، وأما المعنى الملائم فينبني على قبول الاستدلال بالمرسل : فمن رده كان تعدد المعنى في الأصل مخلا بالشهادة ، ومن قبله لم يضر لأنه يجوز الاعتماد عليه ، وإن لم يرد حكم على وفقه ، فكيف إذا ورد على الوفق .

وقال ابن رحال السكندري : هذه المسألة لا يتحقق فيها الخلاف ، فإن لفظ التعليل مشترك بين معنيين ، ويجوز أن يكون كل واحد أراد معنى غير ما أراد الآخر فلا خلاف . قال : والمختار أنه إن أريد بالتعليل نصب الأمارة فهو جائز وواقع ، وإن أريد بالتعليل ثبوت الحكم لأجل الوصف [ ص: 226 ] فهو جائز في صور متعددة بحيث يثبت الحكم في كل صورة لعلة ، فأما ثبوت الحكم في صورة واحدة بعلل كل منها مستقلة فيه فهذا لا يجوز . انتهى .

التفريع

إن قلنا بالجواز فالجمهور على الوقوع ، وقال إمام الحرمين : إنه جائز غير واقع ، وأراد بالجواز العقلي فإنه قال في البرهان : ليس ممتنعا عقلا وتسويغا ونظرا إلى المصالح الكلية ، ولكنه يمتنع شرعا . وجرى عليه إلكيا وقال : إن المانع له استقراء عرف الشرع لا العقل ، وقال ابن برهان في الوجيز : إن الذي استقر عليه رأي الإمام - أخيرا هو المنع يعني كما نقله الآمدي وحينئذ يكون له في المسألة رأيان وحكى الهندي قولا عكس مقالة الإمام فقال : قال إمام الحرمين : يجوز عقلا ولم يقع سمعا ، وقيل بعكسه . وقال البزدوي بوقوعه إن دل عليه نص أو إجماع وإلا فلا لتعارض الاحتمالين ، فلا يحكم بواحد منها إلا بدليل .

وأما إذا قلنا بالمنع فلو اجتمعت كاللمس والمس فاختلفوا فقال قوم : كل واحد جزء علة ، وقال آخرون : العلة واحدة منهما لا بعينه حذرا من تحصيل الحاصل إذا جعلنا كل واحد علة مستقلة ، وأغرب ابن الحاجب فحكى هذا الخلاف على القول بالجواز . والمعروف اتفاق المجوزين على أن كل واحدة علة وإنما القولان على القول بالمنع . نعم ، قال بعض المحققين : اتفقوا عند الترتيب على أن الحكم مستند إلى الأولى فقط ، وإنما الخلاف إذا وقعت دفعة ، وقال إلكيا الطبري - وهو من المانعين - إن قيل : لو وجدت العلتان في حكم فماذا يعمل ؟ قيل : لا بد وأن تكون إحداهما علة [ ص: 227 ] باطلة ، أو إحداهما راجحة ، لما بينهما من التنافي ، ولا يجوز تقدير تساويهما بحيث لا يظهر رجحان انتهى . ثم الذين منعوا الاجتماع في العلة اختلفوا في المأخذ : فمنهم من قال : لأن المحل لا يفي بمقتضيات العلل ، لأن مقتضياتها الأمثال ، والأمثال - كالأضداد - لا تجتمع ، فعلى هذا يمتنع في المنصوصة والمستنبطة . ومنهم من قال بل يفي بمقتضياتها ولكن يتعذر شهادة الحكم لكل واحدة ، لاحتمال أن يكون المجموع هو العلة ، أو يكون العلة بعض المجموع دون بعض ، فيتعارض الاحتمالان في الشهادة بالاستقلال لكل واحد ، فعلى هذا يجتمع في المنصوصة ويمتنع في المستنبطة . ثم اختلف المانعون للاجتماع من ناحية مقتضاها في الاعتذار عن مثل الحائض المحرمة الصائمة . فمنهم من قال : مقتضياتها أحكام عديدة : قيل : حكم ذو وجهين ، والتعدد بالجهة كالتعدد بالتعيين . وقيل : الحكم واحد وإنما المجموع علة . والمختار أن العلل لا يتعذر اجتماعها على الحكم الواحد من جهة مقتضياتها ولكن من جهة الشهادة لها أحيانا ، فإن التبست الشهادة لأعدادها ، كما على صحة الاجتماع أن المصحح عند الانفراد - وهو انتظام المصلحة بترتيب الحكم على الوصف - حاصل بترتيب الحكم على الأوصاف بل لتحصل عند الاجتماع مصالح فهو بالصحة أولى .

وقد أورد المانعون إشكالا وهو أنه لو ثبت الحكم بعلل فإما : [ 1 ] أن يثبت بكل واحدة منها . [ 2 ] أو لا شيء . [ 3 ] أو بشيء منها دون شيء ، والأقسام كلها باطلة : أما [ الأول ] فإنه يلزم منه إثبات الثابت وأما [ الثاني ] فلأنه يلزم منه سلب العلة عن الكل . وهو مناقض للغرض . وأما [ الثالث ] فيلزم منه الاحتكام بترجيح أحد المتساويات من غير مرجح . ثم يلزم سلب العلة فيما فرضناه علة وهو محال . وأجاب الحذاق باختيار القسم الأول : قولهم يلزم إثبات الثابت قلنا : لا يلزم ، فإن العلل [ ص: 228 ] الشرعية معرفات ووقفوا هاهنا . وقال القاضي ابن المنير : وللمانع أن يدير التقسيم مع فرض كونها معرفات فيقول ; المعروف هو المثبت للمعرفة ، فعلى هذا إنما تكون كل واحدة أثبتت المعرفة بالحكم . أو لم يثبت شيء منها المعرفة ، أو أثبتها البعض ، فيعود الإشكال وإنما الجواب أن هذا القياس حصل من إلحاق العلة الشرعية بالعقلية ، وليس كذلك ، فإنه لا معنى لكون الوصف علة إلا أن يكون بحيث إذا نسب الحكم إلى العلة وجدت مصلحة أو اندفعت مفسدة ، وبهذا التفسير لا يتخيل عاقل امتناع اجتماع العلل فإن حينئذ يكون الحكم بترتيب الحكم على الأوصاف تحصل مفاسد عديدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية