صفحة جزء
( المسألة ) الثانية ( هل يتعلق فرض الكفاية بالكل أو البعض ؟ ) اختلفوا هل يتعلق فرض الكفاية بالكل أو البعض على قولين مع الاتفاق على أنه يسقط بفعل البعض ؟ . والجمهور على أنه يجب على الجميع ; لتعذر خطاب المجهول بخلاف خطاب المعين بالشيء المجهول ، فإنه ممكن كالكفارة ، ونص عليه الشافعي في مواضع من " الأم " : منها قوله : حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه ، لا يسع عامتهم تركه ، وإذا قام منهم من فيه كفاية أجزأه عنهم - إن شاء الله - وهو كالجهاد عليهم حق أن لا يدعوه ، وإذا انتدب منهم من يكفي الناحية التي يكون بها الجهاد أجزأ عنهم ، والفضل لأهل الولاية بذلك على أهل التخلف عنهم . [ ص: 323 ] وقال في باب السلف فيمن حضر كتاب حق بين رجلين : ولو ترك كل من حضر الكتاب خفت أن يأثموا بل لا أراهم يخرجون من الإثم وأيهم قام به أجزأ عنهم ، وذكر مثله في الشهود إذا دعوا للأداء ، وجرى عليه الأصحاب في طرقهم وإليه ذهب من الأصوليين أبو بكر الصيرفي ، والشيخ أبو إسحاق ، والقاضي ، والغزالي .

قالوا : والجملة مخاطبة ، فإذا وقعت الكفاية سقط الحرج ، ومتى لم تقع الكفاية فالكل آثمون ، واختاره ابن الحاجب ونقله الآمدي عن أصحابنا ، وأنه لا فرق بينه وبين الواجب من جهة الوجوب إلا أنهما افترقا في السقوط بفعل البعض . ثم عبارة الأكثرين أنه وجب على الجميع ، ونقل إمام الحرمين في التلخيص " عن القاضي أنه وجب على عين كل واحد ، ولا بد من تأويله ، ويخرج من ذلك إذا قلنا : إنه واجب على الجميع . قولان : أحدهما : أنه واجب على جميع المكلفين من حيث إنه جميع . والثاني : أنه واجب على كل واحد ، فإن قام به بعضهم سقط التكليف عن الجميع ، وإن لم يقم به أحد أثم الجميع . ويظهر تغاير القولين في كيفية التأثيم عند الترك ، فعلى الأول تأثيم كل واحد يكون واقعا بالذات ، وعلى الثاني بالعرض ، وقد ضعف صاحب " التنقيحات " القول الثاني بأن الوجوب إذا تعين على كل واحد بالفعل ، وليس الشيء مما يفوت ، كصلاة الجنازة فإسقاطه عن الباقين رفع للطلب بعد التحقق فيكون نسخا ، ولا يصح دون خطاب جديد ، ولا خطاب ، فلا نسخ ، فلا سقوط . بخلاف ما إذا قلنا بالأول ، وهو وجوبه على الجميع من حيث هو جميع ، فإنه لا يلزم هذا الإشكال ، إذ لا يلزم من إيجاب الحكم [ ص: 324 ] على جملة إيجابه على كل واحد ، والظاهر ترجيح الثاني ، فإن تكليف المجموع من حيث هو مجموع لا يعقل ; لأنه غير مكلف ، وإن اعتبر فيه الأفراد رجع لقولنا .

وقوله : يلزم منه رفع الطلب قبل الأداء ، وهو إنما يكون بالنسخ ممنوع ، فإن رفع الطلب كما يكون بالنسخ يكون بانتفاء علة الوجوب ، وهو كذلك ، فإن الله تعالى إنما أوجب صلاة الجنازة احتراما للميت كما أوجب دفنه سترا له ، فإذا قام بذلك طائفة زالت العلة فيسقط الوجوب ; لزوال علته ، كما أنه يسقط وجوب الدفن إذا احترق الميت أو أكله السبع لانتفاء علته .

ويظهر مما ذكرناه أن قولهم : " ويسقط بفعل البعض " فيه تجوز ، فإن علة السقوط بالحقيقة هي انتفاء علة الوجوب لا فعل البعض ، لكن لما كان فعل البعض سببا لانتفاء علة الوجوب نسب السقوط إليه تجوزا . هذا إن عللنا أفعال الله تعالى بالمقاصد ، ومن لم يعللها بالمقاصد فيجوز أن يكون أداء بعضهم أمارة على سقوط الفرض عن الباقين ، وقد أورد على هذا المذهب أنه لو كان واجبا على الكل لما سقط بفعل البعض ; لأن البعض الآخر حينئذ يكون تاركا للواجب ، وتارك الواجب مستحق العقاب . وأجيب بأن الإيجاب متعلق بالجميع ، ولا يلزم من تعلقه بالجميع تعلقه بكل واحد ، وأيضا فإن سقوطه عن الباقين لتعذر التكليف به ، والتكليف تارة يسقط بالامتثال ، وتارة يسقط بتعذر الامتثال ، وقال المتولي : هل نقول إذا فعله يسقط الفرض عنه وعنهم ; لأن الفرض يتناول جميعهم ، أو نقول بأن آخر الأمر أن الوجوب لم يتناول سوى من فعله ؟ فيه خلاف . [ ص: 325 ]

قلت : وهو يشبه القول المحكي في الواجب المخير أنه يتعين أحدهما بالفعل ، والقول الثاني : أنه واجب على البعض ، وعلى هذا فهل هو مبهم أو معين ؟ قولان ، وعلى القول بأنه معين هل هو من قام به أو معين عند الله دون الناس ؟ قولان ، ويخرج من كلام المتولي وجه أنه يتعلق بطائفة مبهمة ويتعين بالفعل . وحكى ابن السمعاني تفصيلا بين أن يغلب على ظنه أنه يقوم به غيره فلا يجب وإلا وجب ، واستحسنه . قال : والخلاف عندي لفظي لا فائدة فيه . قلت : وقد يقال : بأنه معنوي وتظهر فائدته في صورتين : إحداهما : أن فرض الكفاية هل يلزم بالشروع ؟ فمن قال : يجب على الجميع أوجبه بالشروع لمشابهته فرض العين . والثانية : إذا فعلته طائفة ، ثم فعلته أخرى هل يقع فعل الثانية فرضا ؟ وفيه خلاف سنذكره .

وكلام الإمام في المحصول مضطرب في المسألة ، والظاهر أنه يقول : على البعض ; لأنه جعله متناولا لجماعة لا على سبيل الجمع ، ومراده بالجمع أعم من التعميم والاجتماع بدليل أنه قسمه إليهما ، فقال في التناول على سبيل الجمع : إنه ممكن فقد يكون فعل بعضهم شرطا في فعل البعض ، وقد لا يكون ما ليس على سبيل الجمع ينبغي أن لا يكون على الجميع لا جميعا ولا إنسانا ، وإنما على البعض ، ويؤيده قوله : فمتى حصل ذلك بالبعض لم يلزم الباقين ، ولو كان على الجميع لما قال : " لم يلزم الباقين " بل كان يقول : ( سقط عن الباقين ) غير أنه استعمل لفظ السقوط بعد ذلك ، فينبغي تأويله ليجمع كلاماه .

التالي السابق


الخدمات العلمية