صفحة جزء
الثاني - أن يذكر الشارع مع الحكمة وصفا لو لم يكن علة لعري عن الفائدة ، إما مع سؤال في محله ، أو سؤال في نظيره .

فالأول : كقول الأعرابي : واقعت أهلي في رمضان ، فقال : { أعتق رقبة } فإنه يدل على أن الوقاع علة للإعتاق ، والسؤال مقدر في الجواب ، كأنه قال : إذا واقعت فكفر . وقد مر أن مثل هذا للتعليل فكذا هنا ، لأن المقدر كالمحقق ، فإن حذفت من ذلك بعض الأوصاف وعللت بالباقي سمي ( تنقيح مناط ) ، مثاله : أن يقول : كونه أعرابيا لا مدخل له في العلة ، إذ الأعرابي وغيره حكمهما سواء . وكذا كون المحل أهلا ، فإن الزنى أجدر به .

( والثاني ) كقوله ، وقد سألته الخثعمية : إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أينفعه إن حججت عنه ؟ قال : { أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ؟ } قالت : نعم ، فذكر نظيره وهو دين الآدمي ، فنبه على كونه علة في النفع وإلا لزم العبث . وجعل إمام الحرمين وغيره منه قوله عليه السلام للسائل عن القبلة : { أرأيت لو تمضمضت بماء } فقال : نبهه عليه الصلاة والسلام على قياس [ ص: 254 ] القبلة على المضمضة في صحة الصوم معها . وقال المحققون غير ذلك ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام إنما نبه على نقيض قياس يختلج في صدر السائل ، وذلك أن الإشكال الذي عند القائل إنما نشأ من اعتقاده أن القبلة مقدمة الجماع ، والجماع مفسد ومقدمة الشيء ينبغي أن تنزل منزلة الشيء ، لما بين المقدمة والغاية من التناسب ، فنبه عليه الصلاة والسلام أن تعليل تنزيل القبلة منزلة الجماع في الإفساد بكونها مقدمة منقوض بالمضمضة في الوضوء وإن كان صائما ، فإن المقدمة وجدت من المضمضة ولم يوجد الإفساد ، وإلا فكيف تقاس القبلة على المضمضة في عدم الإفساد بجامع كونهما مقدمتين للمفسد ، ولا مناسبة بين كون الشيء مقدمة لفساد الصوم وبين كون الصوم صحيحا معه ، بل هذا قريب من فساد الوضع .

أما إذا علم الشارع فعلا مجردا تكلم عقيبه بحكم فهل يكون علمه كإعلامه حتى يكون الفعل المجرد المعلوم سببا ؟ فيه خلاف حكاه الإبياري . وقال : الصحيح أنه لا يصح استناد التعليل إليه ، لاحتمال أنه حكم مبتدأ وجرى ذكر الواقعة اتفاقا ، ويحتمل الربط لقربه من القرينة . وقال صاحب جنة الناظر " : من أنواع الإيماء الحكم عند رفع الحادثة إليه ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " كفر " لمن قال : واقعت .

وذهب جماعة من الأصوليين إلى أن شرط فهم التعليل من هذا النوع أن يدل الدليل على أن الحكم وقع جوابا لما رفع إليه ، إذ من الممكن أن يكون الحكم استئنافا لا جوابا ، وهذا كمن تصدى للتدريس فأخبره تلميذ بموت السلطان مثلا ، فأمره عقب الإخبار بقراءة درسه ، فإنه لا يدل على تعليل القراءة بذلك الخبر ، بل الأمر بالاشتغال بما هو بصدده وبترك ما لا يعنيه . وإذا ثبت افتقار فهم التعليل إلى الدليل فليس إلا انتفاء القرائن الصارفة ، إذ السؤال يستدعي الجواب ، فتأخيره عنه يكون تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ، وذلك على خلاف الدليل . [ ص: 255 ] واعلم أن اعتراف هؤلاء بكون السؤال يستدعي الجواب اعتراف بكون السؤال قرينة على كون الواقع جوابا ، فيكون مناقضا لقولهم : إن فهم التعليل يفتقر إلى الدليل ، والقرائن الصارفة ترشد المعارض لدلالة الدليل على تعيين الواقع جوابا ، فلا يؤخذ انتفاؤها في حد الدليل . نعم يقف العمل بالدليل على انتفائها ، وذلك لا يخص هذا النوع من الإيماء ، بل هو جار في جميع الأنواع ، لأن انتقاء المعارض مشترط في العمل بجميع الدلائل .

التالي السابق


الخدمات العلمية