صفحة جزء
[ المسلك ] الخامس في إثبات العلية [ المناسبة ]

وهي من الطرق المعقولة ، ويعبر عنها ب " الإخالة " وب " المصلحة " وب " الاستدلال " وب " رعاية المقاصد " . ويسمى استخراجها " تخريج المناط " لأنه إبداء مناط الحكم . وهي عمدة كتاب القياس وغمرته ومحل غموضه ووضوحه . وهو تعيين العلة بمجرد إبداء المناسبة ، أي : المناسبة اللغوية التي هي الملاءمة . فلا دور من ذات الأصل ، لا بنص ولا غيره ، مع السلامة عن القوادح . كالإسكار في تحريم الخمر .

والمناسب - لغة : الملائم ، وأما في الاصطلاح فقال من لم يعلل [ ص: 263 ] أفعال الله بالغرض : إنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات ، أي ما يكون بحيث يقصد العقلاء لفعله على مجاري العادة تحصيل مقصود مخصوص . وقال من يعللها : هو ما يجلب للإنسان نفعا ، أو يدفع عنه ضرا . وهو قول الدبوسي : ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول . قيل : وعلى هذا فإثباتها على الخصم متعذر ، لأنه ربما يقول : عقلي لا يتلقى هذا بالقول . ومن ثم قال أبو زيد الدبوسي : هو حجة للناظر لأنه لا يكابر نفسه ، دون المناظر . قال الغزالي " رحمه الله " : والحق أنه يمكن إثباته على الجاحد بتبيين معنى المناسبة على وجه مضبوط ، فإذا أبداه المعلل فلا يلتفت إلى جحده . وقيل : إن التفسير الأول بني على جواز تخصيص العلة ، وأن المناسب لا ينخرم بالمعارض . والتفسير الثاني بني على منع التخصيص ويأخذ انتفاء العارض في حد المناسب . وقال الخلافيون : المناسبة مباشرة الفعل الصالح لحكمة ومصلحة . أو : صلاحية الفعل لحكمة ومصلحة . وقال ابن الحاجب وغيره : هو وصف ظاهر منضبط يحصل عقلا من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء من حصول مصلحة دينية أو دنيوية ، أو دفع مفسدة . فإن كان الوصف خفيا أو ظاهرا غير منضبط فالمعتبر ما يلازمه ، وهو المظنة ، كالمشقة ، فإنها للمقصود ولا يمكن اعتبارها بنفسها ، لأنها غير منضبطة ، فتعتبر بما يلازمه وهو السفر . قال [ ص: 264 ]

الهندي : وهو ضعيف ، لأنه اعتبر في ماهية المناسبة ما هو خارج عنه ، وهو اقتران الحكم للوصف ، وهو خارج عن ماهية المناسبة ، بدليل أنه يقال : المناسبة مع الاقتران دليل العلية ، ولو كان الاقتران داخلا في الماهية لما صح هذا . وأيضا فهو غير جامع ، لأن التعليل بالظاهرة المنضبطة جائز ، على ما اختاره قائل هذا الحد ، والوصفية غير متحققة فيها مع تحقق المناسبة . وقد احتج إمام الحرمين على إفادتها العلية بتمسك الصحابة بها ، فإنهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص إذا غلب على ظنهم أنه يضاهيه لمعنى أو يشبهه . ورده في الرسالة البهائية " بأنه ما نقل إلينا أنهم كانوا يتمسكون بكل ظن غالب ، فلا يبعد التعبد من نوع الظن الغالب ، ونحن لا نعلم ذلك النوع . ثم قال : الأولى الاعتماد على العمومات الدالة على الأمر بالقياس . وقد أورد على اعتبار الفقهاء " المناسبة " في الأحكام بأنه يقتضي تعليل أحكام الله بالغرض ، كما يقوله المعتزلة ، وقد سبق تحرير هذا في الكلام على العلل . والحق أن استقراء أحكام الشرع دل على ضبط هذه الأحكام بالمصالح ، وهذا كاف فيما نرومه ، وذلك بفضل الله ( جل اسمه ) لا وجوبا ، خلافا للمعتزلة في وجوب رعاية الأصلح . واعلم أن الأصل عدم " التعبد " لندرته في الأحكام بالنسبة إلى " ما يعقل معناه " . والأغلب على الظن إلحاق الفرد بالأعم الأغلب ، وإنما يحكم بالتعبد فيما لا تظهر فيه مناسبة إلا عند من يعلل بالوصف الشبهي ، فإنه غير مناسب بنفسه ولا معلوم اشتماله على المناسب ، ولا يصار إلى التعبد معه عند القائلين به .

التالي السابق


الخدمات العلمية