صفحة جزء
المقام الثاني : في حكمه

ولا يصار إليه مع إمكان قياس العلة بالإجماع ، كما ذكره القاضي وغيره . وإنما الكلام فيه إذا تعذرت . وقد اختلفوا فيه على مذاهب .

أحدها : أنه حجة ، وحكاه القرطبي عن أصحابنا وأصحابهم . وقال شارح العنوان : إنه قول أكثر الفقهاء . وقال في القواطع : إنه ظاهر مذهب الشافعي . وقد أشار إلى الاحتجاج به في مواضع من كتبه ، منها قوله في إيجاب النية في الوضوء كالتيمم : طهارتان فكيف تفترقان . وتابعه على ذلك أكثر الأصحاب . وقال الشافعي في أواخر الأم في باب اجتهاد الحاكم والقياس قياسان :

أحدهما : أن يكون في معنى الأصل ، فذاك الذي لا يحل لأحد خلافا .

والثاني أن يشبه الشيء بالشيء من أصل ، ويشبه من أصل غيره . ثم قال : وموضع الصواب عندنا في ذلك أن ينظر : فأيهما كان أولى بشبهه صير إليه ، فإن اشتبه أحدهما في خصلتين ، والآخر في خصلة ألحقه بالذي أشبه في خصلتين . انتهى . [ ص: 299 ] حكى هذا النص الأصحاب في كتبهم ، والماوردي والروياني وابن السمعاني . قال : واختلف أصحابنا في ذلك فقال بعضهم : إن قوله هذا يدل على أنه حكم بكثرة الأشباه من غير أن يجعلها علة لحكم . وقال بعضهم : إنما حكم بترجيح إحدى العلتين في الفرع بكثرة الشبه .

وقال الروياني في البحر : وقول الشافعي " فموضع الصواب . . . " إلى آخره ، يريد إذا كانت كل خصلة علة مستقلة بنفسها مستغنية عن صاحبتها مثل الأخ يتردد بين أن يكون كالأب ، وبين أن يكون كابن العم ، وهو يشبه الأب من وجه وهو محرم له بالقرابة ، ويشبه ابن العم من وجوه كثيرة من قبول الشهادة ، وسقوط النفقة ، وجريان القصاص من الطرفين معهما ، وجريان حد القذف فإلحاقه بابن العم حتى لا يعتق عليه إذا ملكه أولى . ونقل الغزالي في شفاء العليل عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك القول بالشبه بطريق تمسكهم به . قال في المستصفى : ولعل أكثر أقيسة الفقهاء قياس الشبه . قال : ومنه قول الشافعي : طهارتان فأنى تفترقان ؟ فإنه يوهم الاجتماع في مناسب ، وهو مأخذ الشبه وإن لم يطلع على ذلك المناسب . وقول أبي حنيفة : مسح الرأس لا يتكرر ولأنه مسح لا يتكرر ، قياسا على الخف . وقال الخوارزمي في الكافي : قياس الشبه عندنا حجة ، فإن القياس المعنوي إنما صار حجة لأنه يفيد غلبة الظن ، والشبه يفيدها أيضا . ومن أنكرها في الشبه كان منكرها في قياس المعنى . انتهى . وقد أنكر جماعة نسبة القول بالشبه إلى الشافعي ، منهم أبو إسحاق المروزي ، ونقل عنه أنه قال : ليس بحجة ، كما حكاه ابن السمعاني . وقال القاضي أبو بكر : لا يكاد يصح القول بالشبه عن الشافعي مع علو رتبته في الأصول . وكذلك قال الشيخ في اللمع أن كلام الشافعي متأول [ ص: 300 ] محمول على قياس العلة ، فإنه يرجح بكثرة الأشباه ويجوز ترجيح العلل بكثرة الأشباه . قلت : وعبارة الشافعي رحمه الله في الرسالة : أن يكون الله ورسوله حرم الشيء منصوصا ، أو أحل لمعنى ، فإذا وجدنا ذلك المعنى فيما لم ينص فيه بعينه كتاب ولا سنة أحللناه أو حرمناه ، لأنه في معنى الحلال والحرام . أو تجد الشيء يشبه منه الشيء من غيره ولا نجد شيئا أقرب منه شبها من أحدهما فنلحقه بأولى الأشياء شبها به ، كما قلنا في الصيد . انتهى . وقال في موضع آخر : القياس على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشيء في معنى الأصل ولا يختلف القياس فيه .

والثاني : أن يكون الشيء له الأصول أشباها بذلك ، فيلتحق بأولاها به وأكثرها شبها به . وقد يختلف القائسون في هذا . انتهى .

المذهب الثاني :

أنه ليس بحجة . قال ابن السمعاني : وبه قال أكثر الحنفية ، وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم ، وصار إليه أبو زيد ومن تبعه ، وذهب إليه أيضا أبو بكر والأستاذ أبو منصور البغدادي انتهى . وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي والشيرازي والقاضي أبو الطيب ، كما نقل في البحر ، وأبو بكر الصيرفي والقاضي ابن الباقلاني ، لكن هو عند القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق صالح لأن يرجح به ، وبه جزم القاضي أبو بكر في باب " ترجيح العلل " من كتاب التقريب . وقال إلكيا : وربما تردد القاضي أبو بكر في تصانيفه في إبطال الشبه فقال : إن لم يبين مستند ظنه كان متحكما ، وإن بين كان مخيلا . وربما قال : الإشباه لا بد وأن يستند إلى معنى كلي . قال : وقد بينا تصورها لا على هذا الوجه . [ ص: 301 ] ثم اختلف القائلون بحجيته في أنه بماذا يعتبر ، على مذاهب :

أحدها : اعتباره مطلقا .

والثاني : بشرط ذهاب الصورة إلى الحكم في واقعة لا يوجد منها إلا الوصف الشبهي .

والثالث : بشرط أن يجتذب الفرع أصلان ، وليس أصل سواهما ، فيلحق بأحدهما بغلبة الأشباه . حكاه القاضي ، وهو ظاهر نص الشافعي السابق .

والرابع : بشرط أن لا يثبت للحكم علة بعينه ، وإلا كان الرجوع إليها أولى من الرجوع إلى أشباه وصفات لم يتعين كونها علة للحكم . حكاه القاضي وقال : إنه راجع إلى الذي قبله .

التالي السابق


الخدمات العلمية