صفحة جزء
[ ص: 318 ] فصل

ساق الغزالي في " شفاء العليل " من كلام الشافعي وأصحابه هنا أمرا حسنا ينبغي للفقيه الإحاطة به فقال : قياس الطرد صحيح ، والمعني به التعليل بالوصف الذي لا يناسب ، وقال به كافة العلماء كمالك وأبي حنيفة والشافعي . ومن شنع على القائلين به من علماء العصر القريب كأبي زيد وأستاذي إمام الحرمين ، فهم من جملة القائلين به ، إلا أن الإمام يعبر عن الطرد الذي لا يناسب ب ( الشبه ) ويقول : الطرد باطل والشبه صحيح ، وأبو زيد يعبر عن الطرد ب ( المخيل ) ، وعن الشبه ب ( المؤثر ) ، ويقول : المخيل باطل والمؤثر صحيح . وقد بينا بأصله أنه أراد بالمؤثر ما أردناه بالمخيل ، وسنبين أن القائلين بالشبه المنكرين للطرد مرادهم بالشبه ما أردناه بالطرد ، وأن الوصف ينقسم إلى قسمين : مناسب كما ذكرنا ، وهو حجة وفاقا ، ومنهم من يلقبه بالمؤثر وينكر المخيل . وغير المناسب أيضا حجة إذا دل عليه الدليل ، ومنهم من يلقبه بالشبه ، حتى يخيل أنه غير الطرد وليس كذلك . ( قال ) : ولقد عز على بسيط الأرض من يحقق الشبه .

ثم قال : فنقول : اختلف الناس في الطرد والعكس ، والشبه ، فمنهم من قال بهما ، ومنهم من أنكرهما ، ومنهم من قال بأحدهما دون الآخر . ونحن نقول : مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي القول بهما جميعا ، فإنهم قالوا بالشبه وهو أضعف من القول بالطرد والعكس . ( قال ) : وقد علل [ به ] الفقهاء كافة سقوط التكرار في مسح الخف ، وشرعيته في غسل الأعضاء فقال أبو حنيفة رحمه الله في مسح الرأس : إنه مسح فلا يكون كمسح الخف . وقال الشافعي : أصل في الطهارة فكرر كالغسل ، وكل منهما طرد محض . وكذلك قوله : طهارتان فأنى تفترقان ؟ [ ص: 319 ]

( قال ) : والذي يدل على أن الشافعي لم يذهب في التعليل مسلك الإخالة فصل ذكره في كتاب " الرسالة " ، وقد نقلناه بلفظه قال الشافعي رحمه الله : قال الله تعالى : { والوالدات يرضعن } الآية { وأمر النبي صلى الله عليه وسلم هندا أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها } ، فكان الولد من الوالد ، فأجبر على صلاحه في الحال التي لا يغني فيها عن نفسه ، وكان الأب إذا بلغ أن لا يغني عن نفسه بكسب ولا مال فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته ، قياسا على الوالد ، ولم يضع شيئا هو منه ، كما لم يكن للوالد ذلك ، والوالد وإن بعد ، والولد وإن سفل في هذا المعنى ، فقلنا : ينفق على كل محتاج منهم غير محترف ، وله النفقة على الغني المحترف .

وذكر { حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الغلة بالضمان } فقال : وكأن الغلة لم تقع عليها صفقة البيع فيكون لها حصة في الثمن ، فكانت في ملك المشتري في الوقت الذي لو فات فيه العقد فات في ماله ، فدل أنه إنما جعلها له لأنه حادثة في ملكه وضمانه ، فقلنا كذلك في ثمر النخيل ولبن الماشية وصوفها وأولادها وولد الجارية وكل ما حدث في ملك المشتري وضمانه . وكذلك وطء الأمة الثيب وخدمتها . [ ص: 320 ] { ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، والتمر بالتمر ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح إلا مثلا بمثل ، يدا بيد } ، فلما حرم النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأصناف المأكولة التي يشح الناس عليها حين باعوها كيلا لمعنيين :

أحدهما : أن يباع منها شيء بمثله دينا ، والآخر : زيادة أحدهما على الآخر نقدا ، كان كما كان في معناها ، فحرمنا قياسا عليهما ، فكذلك كل ما أكل مما ابتيع موزونا ، والوزن والكيل في ذلك سواء ، وذلك كالعسل والزبيب والسمن والسكر وغيره مما يكال ويوزن ويباع موزونا ، ولم يقس الموزون على الموزون من الذهب والورق ، لأن يجوز أن يشتري بالدراهم والدنانير نقدا عسلا وسمنا إلى أجل ، ولو قيس عليه لم يجز إلا يدا بيد ، كالدنانير والدراهم . ويقاس به ما كان في معناه من المأكول والموزون لأنه يعتاد الكيل والوزن .

قال الغزالي : هذا كله نقلناه من لفظ الشافعي فليتأمل المنصف ليعرف كيف علل بهذه الأوصاف [ ما ] لا يناسب ، ذاهبا إلى أن المشارك له في هذه الأوصاف في معناه غير معرج على المناسبة والإيماء .

ونقل أبو بكر الفارسي من لفظ ابن سريج ، في سياق كلام له في تصحيح التعليل بالاطراد والسلامة عن النواقض فصلا وهو قوله : قلت : فإن قال قائل : إذا ادعيتم أن العلل تستخرج وتصح بالسبر والتقسيم والاطراد في معلولاتها ، فإن عارضها أصل يدفعها علم فساده ، وإن لم يعارضها أصل صحت فأخبروني : إذا انتزعتم علة من أصل ، فانتزع مخالفوكم علة أخرى [ ص: 321 ] فخبرونا : ما جعل علتكم أولى ؟ فإن أحلتم ذلك أريناكم زعم العراقي علة البر أنه مكيل ، فإن ذلك لا ينكر ، وزعم الشافعي أنها الأكل دون الكيل ، فنقول : إنا تركنا جعل كل واحد من هذين الأمرين علة لأنه يخرجنا من قول العلماء الذي احتجنا إلى ترجيح قول بعضهم على بعض ، لأن الشافعي اقتصر على الأكل ، والعراقي على الكيل ، فرجحنا هذه على تلك ، فإنا وجدنا الكيل معناه معنى الوزن ، ووجدنا ما حرم من الذهب والفضة لا يدل على تحريم الموزونات ، وذلك لأن الذهب لا يجوز بالورق نسيئة ، ويجوز الذهب بالموزونات نسيئة ، وقرر هذا الكلام ثم قال : دل هذا على أن الشيء حرام لمعنى فيه ، كالذهب والورق وأنها أصل النقدين وقيم المستهلكات ومنهما فرض الزكوات ، فلم يحرما لأن هاهنا أمرا يعرف به مقدارهما وهو الوزن ، بل لما فيهما من منافع الناس التي يعد لهما [ فيها شيء ] سواهما من التقلب والنقد الذي إليه ترجع المعاملة الدائرة بين الناس . وكذلك البر والشعير إنما حرما لأنهما الأقوات والمعاش والغذاء والطعام . ثم جرد من ذلك كله الأكل كان أعم الأمور . وقد ضم إليها في قول لأصحابنا أجزاء الكيل والوزن . قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب " البيوع القديم " : وروي عن ابن عباس أنه قال : لا ربا إلا في ذهب أو ورق وما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب ، وقول ابن المسيب في هذا أصح الأقاويل .

قال الغزالي : فهذا جملة ما أردنا نقله من لفظ الشافعي وابن سريج لنبين أن أرباب المذاهب بأجمعهم ذهبوا إلى جواز التعليل بالوصف الذي لا يناسب من غير استناد إلى إيماء ونص ومناسبة : ( قال ) : والفرض الآن أن نبين نقلا عن علماء الشرع كمالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله القول بالوصف الذي لا يناسب ، وتسميتهم ذلك علة . وكذلك تعليل النقدين بالنقدية القاصرة تدل على أن الشافعي لا يقتصر على التشبيه ، إذ التشبيه إنما يقوم من فرع وأصل ، ولا فرع لهذا الأصل .

التالي السابق


الخدمات العلمية