صفحة جزء
وقد اختلفوا في قبوله وقدحه في العلة على مذاهب :

أحدها : - أنه ليس بمقبول ، لأن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع والأصل في جميع القضايا ، وإنما سوى بينهما في وجه ، ولا يتضمن الجمع بين أسئلة متفرقة ، ولأن المعترض ذكر معنى في جانب الأصل ، وذلك لا يمنع تعليل المعلل بجواز تعليل الحكم بعلتين ، وحكاه في " البرهان " عن طوائف من الجدليين والأصوليين ( قال ) : وإنما يستمر هذا مع القول برد المعارضة في جانب الأصل والفرع جميعا ( قال ) : وهو عند المحصلين ساقط مردود .

وأما ابن السمعاني فقال : وعند المحققين أنه أضعف سؤال يذكر ، وليس مما يمس العلة التي نصبها المعلل بوجه ما ، لكن نهاية ما في الباب أن الفارق يدعي معنى في الأصل معدوما في الفرع ولم يتعرض للمعنى الذي نصبه المعلل . ويجوز أن يكون الأصل معلولا بعلتين مستقلتين ووجدت إحداهما في الفرع وعدمت الأخرى ، وإحداهما كافية لوجوب الحكم ، وانتفاء إحدى العلتين لا يقتضي انتفاء حكمها إذا خلفتها علة أخرى .

والثاني : - قال إمام الحرمين ، واختاره ابن سريج والأستاذ أبو إسحاق أن الفرق ليس سؤالا على حياله ، وإنما هو معنى معارضة الأصل بمعنى ، ومعارضة العلة التي نصبها المستدل في الفرع بعلة مستقلة ، والمقصود منه المعارضة . [ ص: 381 ]

والثالث : قال إمام الحرمين ، وهو المختار عندنا ، وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين : " إنه صحيح مقبول ، وهو إن اشتمل على معنى معارضة الأصل وعلى معارضة علة الفرع بعلة فليس المقصود منه المعارضة ، بل مناقضة الجمع وقال قبل ذلك : ذهب جماهير الفقهاء إلى أنه أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به . هكذا حكاه في " المنخول " عن الجمهور .

وقال الشيخ أبو إسحاق في " الملخص " : إنه أفقه شيء يجري في النظر ، وبه يعرف فقه المسألة . قال الإمام : لأن شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة ، وحقيقته أن المعلل لا يستقر ما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به ، فإذا علل ولم يسبر فعورض بمعنى في الأصل ، فكأنه طولب بالوفاء بالسبر .

ثم ذكر أنه راجع إلى معنى التعليل ، وذكر أن القاضي استدل على قبوله بأن السلف كانوا يجمعون ويفرقون ، ويتعلقون بالفرق كما يتعلقون بالجمع ، كما في قضية الجارية المرسية التي أجهضت الجنين وقد أرسل إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهددها ، فإن عمر رضي الله عنه استشار في ذلك فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : إنما أنت مؤدب ، ولا أرى عليك شيئا . وقال علي رضي الله عنه : إن لم يجتهد فقد غشك ، وإن اجتهد فقد أخطأ ، أرى عليك الغرة .

وكان عبد الرحمن بن عوف حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب [ ص: 382 ] ضمانا ، وجعل الجامع أنه فعل ما له أن يفعله ، فاعترضه علي رضي الله عنه بالفرق ، وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست كالتعزيرات التي يجب الوقوف عليها دون ما يؤدي إلى الإتلاف قال : ولو تتبعنا معظم ما يخوض فيه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وجدناه كذلك .

وقد بالغ ابن السمعاني في الرد على الإمام في هذا الكلام ، وقال : قوله : شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة ليس بشيء ، لأن المعارضة إنما تقدح في حكمين متضادين ، أما إذا ذكرت علتان بحكم واحد فلا يقدح ، ولا يسمى معارضة . وقوله لا يصح تعليل المعلل ما لم يبطل كلامه ما عدا علته يقال : من قال هذا ؟ ولأي معنى يجب ؟ وإنما يجب عليه أن يذكر مخيلة في الحكم مناسبة له إذا وجد فيها ألحقه بالأصل الذي استنبط منه العلة . وأما السبر والتقسيم وإبطال ما عدا الوصف الذي ذكره فليس بشيء ( قال ) : وقد نسب هذا إلى الباقلاني رحمه الله ( قال ) : وكل من كلف المعلل هذا أو رام تصحيح العلة بهذا الطريق فقد أعلمنا من نفسه أن الفقه ليس من بابه ولا من شأنه ، وأنه دخيل فيه مدع له . ( قال ) : وقد بان بطلان طريق السبر وقوله : إنه التزام كذلك ليس كذلك ، بل في تعليل المعلل التزام إبطال كل علة سوى علته ، فهذه من الترهات والخرافات . وكذلك قول من يقول : إن تعليل الأصل بعلتين لا يجوز .

قلت : ولم يتوارد ابن السمعاني مع الإمام على محل واحد ، لأن إمام الحرمين منع اجتماع علتين ، وابن السمعاني يجوزه . ثم قال ابن السمعاني : وأما الذي حكاه عن ابن الباقلاني فقد حاول شيئا بعيدا ، لأن الفرق والجمع على الذي يخوض فيه لم ينقل عن الصحابة أصلا ، وإنما كانوا يتبعون التأثيرات . والذي نقل عن عبد الرحمن بن عوف معنى صحيح ، والذي أشار إليه علي رضي الله عنه في معنى الضمان ألطف منه ، والمراد منه أنه وإن كان يباح له التأديب ولكنه مشروط بالسلامة ، لأنه أمر ليس بحتم [ ص: 383 ] بل يجوز فعله وتركه ، فيطلق فعله بشرط السلامة . ( قال ) : وليس هذا الكلام من الفرق والجمع الذي نحن فيه بشيء ، فلا يدرى كيف وقع هذا الخبط من هذا القائل .

وإن وقع الفرق فنحن لا ننكر الفرق بالمعاني المؤثرة وترجيح المعنى على المعنى ، وإنما الكلام في شيء وراء هذا ، وهو أن المعلل لما ذكر علة قام له الدليل على صحتها ، ففرق الفارق بين الأصل والفرع بمعنى ، فإن كان فرقا لا يقدح في التأثير الذي لوصف المعلل في الحكم فهو فرق صورة ، ولا يلتفت إليه ، وإن فرق بمعنى مؤثر في حكم الأصل فغايته التعليل بعلتين . وإن بين الفارق معنى مؤثرا في التفريق بين الأصل والفرع فالقادح بيان معنى يؤثر في الفرع يفيد خلاف الحكم الذي أفاده المعنى الأول ، فلا بد لهذا من إسناده إلى أصل ، وحينئذ يكون معارضة ، ولا يكون الفرق الذي يقصد بالسؤال ، ونحن بينا أن المعارضة قادحة . ( انتهى )

وحاصله أن المعارضة في الفرع لا تسمى فرقا ، ويصير النزاع لفظيا . وأما المعارضة في الأصل فهي مبنية على مسألة التعليل بعلتين . ونقل إلكيا ما حكاه الإمام في استدلال القاضي عن عامة الأصوليين ثم قال : والحق عندنا أن الفرق إنما يقدح إذا كان أخص من جميع العلل ، فإذ ذاك يتبين به فساد الجمع ، إلا أن الفرق ابتداء تعليل في الأصل ، وعكسه في الفرق . ورب فرق يظهر فتخرج علة المعلل عن اعتبارها شرعا ، وحينئذ فيلحق تعليل المعلل بالطرد ، فإنه أخص من الجمع على كل حال ، فإن كان الجمع مثلا للفرق أو أخص فلا نبالي به ، كقول المالكي في الهبة : عقد تمليك ترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك بالمعاوضة ، فيقول الفارق : المعاوضة يتضمنها النزول عن العوض والرضا بالمعوض ، وذلك يحصل بنفس العقد ، والهبة قد عارت بها . فالمعلل يقول : تلك الصيغة مطرحة فيضطرب النظر فيها .

[ ص: 384 ] قال ) وحرف المسألة أن نكتة الفرق كونه أخص من الجمع ، والجمع أعم ، فإذا في الفرق ثلاثة مذاهب أصحها أن الفرق يرجع إلى قطع الجمع من حيث الخصوصية .

و ( الثاني ) إبطال الفرق من جهة كونه معارضة في جانب الأصل والفرع ، والمعارضة باطلة .

و ( الثالث ) أنه مقبول من جهة كونه قدحا في غرض الجمع . وهذا ملخص من كلام إمام الحرمين ، فإنه ذكر ما حاصله أن الفرق إما أن يلحق الجامع بوصف طردي ، أو لا .

و ( الأول ) مقبول بالاتفاق . ومن علامته أن يقيد الفارق جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره ، كقول الحنفي في البيع الفاسد : معاوضة عن تراض فتفيد الملك ، كالصحيح . فيقول المعترض : المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع فنقلت الملك بالشرع ، بخلاف المعاوضة الفاسدة .

و ( الثاني ) هو محل الخلاف ، كقول المالكي في الهبة ، يحصل فيها الملك فيه بالصيغة بلا قبض ، لأنه عقد تملك ، فيحصل الملك فيه بالصيغة كالبيع ، فيقول الفارق : المعاوضة تتضمن النزول عن الشيء بعوض ، فتضمن الإيجاب والقبول الرضا من الجانبين بخلاف الهبة فإنه نزول بغير عوض فافتقر إلى القبض ليدل على الرضا . فهذا النوع هو موضع الخلاف . فمن رد المعاوضة في الأصل أو في الفرع أو أحدهما رده . وقيل بقبوله على أنه معارضة ، والمختار قبوله لحاجة . وهي مناقضة فقهية للجمع .

ثم أتى الإمام بعد ذلك بكلام جامع فقال : الفرع والجمع إن ازدحما على أصل وفرع في محل النزاع ، فالمختار فيه عندنا اتباع الإحالة . فإن كان الفرق أصلا علل الجمع وعكسه ، وإن استويا أمكن أن يقال هنا بالعلتين المتناقضتين وإذا بنينا على صيغة التساوي أمكن أن يقدم الجمع من جهة وقوع [ ص: 385 ] الفرق بعده غير مناقض له ( قال ) : وهذا كله إذا كان الفرق لا يحيط فيه الجمع بالكلية . فإن أبطله فقد تبين أن ما ذكره المستدل من الجمع ليس بصحيح ، فيكون مقبولا قطعا .

والحاصل أنه إن أبان الفرق أن الجامع طردي فلا خلاف في قبوله . وينبغي أن يأتي فيه خلاف من القائلين برد الطردي . وإن لم يبين ذلك ففيه مذهبان : ( أحدهما ) أنه مردود مطلقا . و ( ثانيهما ) أنه مقبول . ثم اختلف القائلون به : فقيل : لا من جهة كونه فرقا ، بل من جهة كونه معارضة ، وهو مذهب ابن سريج ، والمختار أنه لنفسه وليس القصد منه المعارضة .

ثم قيل : هو أضعف سؤال يذكر ، وحكاه ابن السمعاني عن المحققين . والمختار أنه من أقوى الأسئلة .

ثم قيل : هو سؤالان وهو مذهب ابن سريج ، لاشتماله على معارضة علته للأصل بعلة ، ثم معارضة علته للفرع بعلة مستقلة في جانب الفرع . والمختار - كما قاله في " المنخول " - أنه سؤال واحد ، لاشتماله على اتحاد المقصود وهو الفرق وإن تضمن الإشعار بمنع العلة في الأصل ودعوى علة أخرى فيه ومعارضة في الفرع بعكس المدعي في الأصل . إلا أن يريد الفارق وصفا آخر في جانب الفرع عند عكسه فيكون معارضا وتتعدد .

والمختار على القول بجواز القياس على أصول متعددة ، قبول فروق متعددة ، إذ قد لا يساعد الفارق في الفرق الإتيان بمعنى واحد متناول لجميع الأصول . وقد ذكر جمهور الأصوليين أن الخلاف في قبول الفرق مبني على جواز تعليل الحكم بعلتين مستنبطتين . فمن جوزه قال : لا يقدح الفرق في العلية فلا يفسد قياسه ولا جمعه بعلية الفرق لجواز ثبوت الحكم بعلة أخرى . ومن منعه فهو قائل بالعكس فيقدح الفرق حينئذ ويبطل القياس . وقال إمام الحرمين : القائل بأن الحكم يعلل بعلتين لا يلزم من ذلك أن يجعل جوابا عن الفرق بل عليه أن يبين عدم إشعاره بإثارة الفرق ويرجح مسلك الجامع من طريق الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية