صفحة جزء
الخامس عشر : المعارضة وهي من أقوى الاعتراضات . قال الأستاذ أبو منصور : وقيل : هي إلزام الجمع بين شيئين والتسوية بينهما في الحكم نفيا أو إثباتا . وقيل : إلزام الخصم أن يقول قولا قال بنظيره [ ص: 415 ] والفرق بينه وبين المناقضة من حيث إن كلا نقض معارضة ، بخلاف العكس . وأيضا فالنقض لا يكون بالدليل ، والمعارضة بالدليل على الدليل صحيحة ( قال ) : وهي ترجع إلى الاستفهام ( قال ) وقد اختلفوا فيها : فأثبتها أكثر أهل النظر ، وزعم قوم أنها ليست بسؤال صحيح . واختلف مثبوتها في الثابت منها ، فقيل : إنها تصح معارضة الدلالة بالدلالة والعلة ، ولا تجوز معارضة الدعوى بالدعوى . وهو اختيار أبي هاشم بن الجبائي ، وحكاه أصحابه عن الجبائي ، ووجدنا في كتابه خلافه . وذكر الكعبي في جدله " جواز معارضة الدعوى بالدعوى .

وقال إلكيا الطبري : المعارضة إظهار علة معارضة لعلة ، أو لعلل ، في نقيض مقتضاها . هذا أصل الباب ، ولا يجري إلا في الظنيات ثم يرجح أحد الظنين على الآخر بوجه من وجوه الترجيح . وكذلك المعارضة بعد العجز عن كل اعتراض قدمناه ، فإن فساد الوضع والمنع لا يصلح على حياله اقتضاء الحكم حتى يعارض به . وإنما المعارضة حيث لو لم يقدر لاستقلت العلة في نفسها أو جنسها باقتضاء الحكم لوجود أصل الظن المعتبر ، ولكن المعارض منع اعتبارها دون ترجيح . فالحرف : المعارضة تبين أنه لا بد من زيادة على أصل الظن المعتبر في هذا المجال على الخصوص . واحتج أبو بكر الصيرفي على علة صحة الحجاج بالمعارضة بأن الله تعالى أثبتها على الكفار فقال : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } يعني أن بطلان الوصول إلى ذي العرش علة عجزهم ، ومن صح عجزه ثبت نقصه واستحال وصفه بما وصفتم . [ ص: 416 ]

واعلم أن المعارضة إما في الأصل أو في الفرع أو في الوصف : أما المعارضة في الأصل فإن ذكر علة أخرى في الأصل سوى علة المعلل وتكون تلك العلة معدومة في الفرع ، ونقول : إن الحكم في الأصل نشأ بهذه العلة التي ذكرتها لا بالعلة التي ذكرها الحنفي في تبييت النية : صوم عين فتأدى بالنية قبل الزوال ، كالنفل . فيقال : ليس المعنى في الأصل ما ذكرت ، بل المعنى فيه أن النفل من عمل السهولة والخفة ، فجاز أداؤه بنية متأخرة عن الشروع ، بخلاف الفرض . قال ابن السمعاني والصفي الهندي : وهذا هو سؤال الفرق ، فسيأتي فيه ما سبق وذكره غيرهم أنه لا فرق بين أن تكون العلة يبديها المعترض مستقلة بالحكم كمعارضة الكيل بالطعم ، أو غير مستقلة على أنها جزء العلة ، كزيادة الجارح إلى القتل العمد العدوان في مسألة القتل بالمثقل . وقد اختلف الجدليون في قبوله ، فقيل : لا يقبل ، بناء على منع التعليل بعلتين . قال ابن عقيل : ولأنها ليست مسألة ولا جوابا ، وبه جزم أبو بكر محمد بن أحمد البلعمي الحنفي في كتابه الغرر في الأصول " قال : لأن للمستدل أن يقول : لا تنافي بينهما ، بل أقول بالعلتين جميعا . قال : وليست مناقضة لأنها سد مجرى العلة ولم يسد عليه المجيب مناقضة من العلة . وقيل : يقبل ، وبه جزم ابن القطان وغيره بناء على جواز ذلك ، وعليه جمهور الجدليين ( قالوا ) لأنه إذا ظهر في الأصل وصفان كل واحد منهما صالح للاستقلال فإنه يتعارض عند النظر ثلاثة احتمالات :

أحدها - أن تكون العلة وصف المستدل خاصة .

والثاني - أن تكون وصف المعترض خاصة .

والثالث - أن تكون مجموع الوصفين . وإذا تعارضت الاحتمالات فالقول بتعيين واحد منها من غير مرجح تحكم [ ص: 417 ] محض ، وهل يقتضي إبطال الدليل ؟ فيه قولان - حكاهما الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب : أحدهما - أنه يتم دليل المسئول بالمعارضة ، لأنه إن كان صحيحا فما يعارضه به خصمه يستحيل دليلا . وإن لم يكن صحيحا فعليه أن يرى المستدل فساده . فإن لم يقدر بان عجزه .

والثاني - أنه ما لم يفسد المسئول تلك المعارضة لا يتم دليله - لجواز أن تكون المعارضة هي الصحيحة ودليل المسئول يشبهه ، غير أن السائل عجز عن إيراد ما يفسده . واعلم أن بناء الخلاف في قبول هذا السؤال ورده على تعليل الحكم بعلتين . فإن جوزنا لم يقبل ، وإلا قبل : ذكره إمام الحرمين في " البرهان " وإلكيا الطبري ، ونازعه شارحه ابن المنير فقال : نحن وإن فرضنا جواز اجتماع العلل المستقلة فإنه يتجه ذلك إذا شهدت الأصول بالاستقلال والتعداد . وإنما يتحقق ذلك إذا شهد لكل علة أصل انفردت فيه ثم اجتمعت في محل آخر ، كاجتماع الحيض والإحرام ، فإن استقلال كل منهما بجميع علته حيث ينفرد ثم يقع الآخر حيث يجتمع ، فقائل يقول : أجمعنا على الحكم الواحد ، وآخر يقول : لكل حكم علة فاجتمع علتان وحكمان . أما إذا فرضنا إبداء السؤال علة ، فعارضه السائل بعلة أخرى ففرضهما علتين مستقلتين يستدعي انفراد كل منهما في أصل سوى محل الاجتماع ، فإذا لم يظفر الانفراد فالمعارضة واردة ، بناء على خلل شهادة الأصل ، لأن المسئول إن قال : الباعث هو المعنى الذي أبديته قال السائل : الباعث معناه ، أو الأمران معا ، بحيث يكون كل منهما جزء علة . فهذه احتمالات [ ص: 418 ] متساوية ، والمستدل في تعيين مقصوده بالدعوى متحكم . ولهذا لو لم نعتبر شهادة الأصول وأجزنا المرسلات لم يرد هذا السؤال . وهل يجب على المعترض بيان انتفاء الوصف الذي عارض به الأصل عن الفرع ؟ فيه مذاهب :

( أحدها ) وهو المختار ، أنه لا يجب ، لأنه إن كان في الفرع افتقر المستدل إلى بيانه فيه ليصح الإلحاق ، وإن لم يبين ذلك بطل الجمع .

و ( الثاني ) يجب نفيه ، لأن الفرق لا يتم إلا بذلك .

و ( الثالث ) وبه أجاب الآمدي وابن الحاجب ، إن قصد الفرق فلا بد من نفيه ، وإلا فلا ، لأنه يقول : إن لم يكن موجودا فيه فهو فرق ، وإلا فالمستدل لم يذكر إلا بعض العلة . وعلى التقديرين فلا بد من إشكال . هذا إذا كان المقيس عليه أصلا واحدا ، فإن كان أصولا فقيل : لا يرد ، لأن الاكتفاء بأصل آخر عن هذا حاصل . وقيل : يرد ، لأنه أقوى في إفادة الظن . والقائلون بالرد اختلفوا في الاقتصار في المعارضة على أصل واحد ، فقيل : يكفي لأن المستدل قصد جمع الأصول ، فإذا ذهب واحد ذهب غرضه وقيل : لا بد من الجمع لأن المستقل يكتفي بأصل واحد . والقائلون بالتعميم اختلفوا ، فمنهم من شرط اتحاد المعارض في الكل ، دفعا لانتشار الكلام ، وقيل : لا يلزم ، لجواز أن لا يساعده في الكل علة واحدة . ثم اختلف هؤلاء ، فقيل : يقتصر المستدل في الجواب على أصل واحد ، لأنه به يتم مقصوده . وقيل : لا بد من الجواب عن الكل ، لأنه التزم القياس على الكل . [ ص: 419 ]

وجواب المعارضة من وجوه :

أحدهما - منع وجود الوصف المعارض به ، بأن يقول : لا أسلم وجود الوصف في الأصل .

( الثاني ) - منع المناسبة ، أو منع الشبه إن أثبته بهما لأن من شرط المعارض أن يكون صالحا للتعليل ، ولا يصلح إلا إذا كان مناسبا أو شبها ، إذ لو كان طردا لم يكن صالحا . وإنما لم يكتف من المعترض بالوصف الشبهي في قياس الإخالة ، لأن الوصف الشبهي أدنى من المناسب ، فلا يعارضه . فإن كان أثبته بطريق السبر والتقسيم فليس له أن يطالب المعترض بالتأثير ، فإن مجرد الاحتمالات كاف ، فمن دفع السبر فعليه دفعه ليتم له طريق السبر .

الثالث ، والرابع - أن يقول : ما ذكروه من الوصف خفي فلا يعلل به أمر غير منضبط أو غير ظاهر أو غير وجودي ونحوه من قوادح العلة . كذا ذكره الجدليون . قال ابن رحال : وهو ضعيف ، لأن الظهور والانضباط إنما يشترط في صحة نصبه أمارة ، أما في ثبوت الحكم لأجله فلا ، لأن الحكم يصح ثبوته للخفي والمضطرب ، ولكن إذا أريد نصبه أمارة تعين النظر إلى مظنته . والمعارض هاهنا ليس مقصوده نصب الأمارة ، وإنما مقصوده ما ثبت الحكم لأجله ، فلا معنى لتكليفه إثبات الظهور والانضباط . فإن قيل : فقد جعلتم من الأسئلة النزاع في ظهور الوصف وانضباطه ، وإذا صحت مطالبة المستدل بذلك لكونه شرطا في صحة التعليل صحت مطالبة المعترض به ، قلنا : الفرق بينهما أن المستدل جمع بين الأصل والفرع بوصف ادعى أنه منصوب أمارة ، فظهوره وانضباطه شرط في صحة نصبه أمارة ، وليس كذلك المعترض ، فإنه لم يدع الأمارة وإنما مقصوده طريق الإجمال لشهادة الأصل مما ثبت الحكم لأجله ، والظهور والانضباط ليس شرطا في ذلك ، فافترقا . [ ص: 420 ]

الخامس - بيان أنه راجع إلى عدم وصف موجود في الفرع ، لا إلى ثبوت معارض في الأصل المتقدم ، وهذا إنما يكفي إذا قلنا : لا يصح التعليل بالعدم ، فإن جوزناه لم يكف هذا في الجواب ، بل لا بد أن يقدح فيه لوجه آخر غير كونه عدما . هذا كله إذا تحقق أن الوصف عدم في الأصل ثبوت في الفرع .

السادس - إلغاء الوصف الذي وقعت به المعارضة وقد استشكل هذا بأن الإلغاء ضربان : ( أحدهما ) إلغاء بإيماء النص . و ( الثاني ) إلغاء بتبديل الأصل .

فالأول فيه انتقال من مسلك اجتهادي إلى مسلك نقلي ، والانتقال من أقبح الانقطاع ، ولأنه لو استدل بإيماء النص أولا لأغناه ذلك عن المسالك الاجتهادية ، فأي فائدة في هذا التطويل ؟ فينبغي أن لا يقبل استدلاله أولا . كما قالوا فيما إذا استدل بقياس على وجه لا بد له من الترجيح بالنص .

وأما الثاني ففيه انتقال من محل إلى محل ، مع بقاء مسلك المناسبة والاقتران ، مع أن في [ ذلك ] تطويل الطريق بلا فائدة . إذا علمت ذلك فالإلغاء ضربان :

أحدهما : بإيماء النص ، وهو قسمان :

أحدهما : ما لا يتصور الجمع بينه وبين وصف المستدل ، لقيام الإجماع على أن العلة في الأصل غير مركبة ، بل لا يكون إلا وصفا واحدا ، كقول الشافعي فيما لا يكال ولا يوزن من القثاء والبطيخ إنه يجري فيه الربا ، لأنه مطعوم ، فالتحق بالأشياء الأربعة . فعارض الحنفي في الأصل بالكيل . فيقول الشافعي : وصف الكيل ملغى بإيماء قوله صلى الله عليه وسلم : { لا تبيعوا الطعام [ ص: 421 ] بالطعام ، إلا سواء بسواء } فإنه يدل على التحريم على هذه الصفة ، وترتيب الحكم على الوصف المشتق يدل على كونه علة مستقلة . فإن قيل للشافعي : تركت النص أولا : فلم تستدل به ، واستدللت بغيره على وجه لا بد لك معه من النص ، وهذا تطويل . فالجواب أنه لو استدل أولا بالنص لاحتاج أن يثبت أن الاسم المفرد يقتضي الاستغراق ، وهي مسألة أخرى فكان الأقرب إلى مقصوده أن يستدل بغير النص ويدخر النص لمقصوده الإلغاء ، وهذا مقصود صحيح . فإن كان هذا العذر مطردا في جميع صور الإلغاء كان السؤال السابق مندفعا .

وثانيهما ما يتصور فيه الجمع بين الوصفين ، كقول الشافعي في المرتدة : يجب قتلها ، لأنه شخص كفر بعد إيمانه ، كالرجل . فيقول الحنفي : أعارض في الأصل : الوصف في الرجولية فإنه مناسب لما فيه من الإضرار الناجز بالمسلمين ، وذلك مفقود في المرأة . فيقول الشافعي : وصف الرجولية ملغى بإيماء قوله صلى الله عليه وسلم : { من بدل دينه فاقتلوه } فإنه يدل على قتل جميع المرتدين من جهة تعليقه بصيغة العموم بوصف ( التبديل ) .

الثاني : إلغاء بتبديل الأصل : وصورته أن يبين المستدل صورة ثالثة يثبت فيها الحكم المتنازع فيه بالإجماع على وفق علته بدون ما عارض به المعترض في الأصل الثاني ، إذ لا يتصور أن يكون معتبرا فيه مع كونه معدوما . وأما المعارضة في الفرع : فهي أن يعارض حكم الفرع بما يقتضي نقيضه أو ضده ، بنص أو إجماع ، أو بوجود مانع ، أو بفوات شرط . فيقول : ما ذكرت من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع فعندي وصف آخر يقتضي نقيضه ، فتوقف دليلك . مثال النقيض : إذا باع الجارية إلا [ ص: 422 ] حملها صح في وجه ، كما لو باع هذه الصيعان إلا صاعا . فنقول : لا يصح ، كما لو باع الجارية إلا يدها . ومثال الضد : الوتر واجب ، قياسا على التشهد في الصلاة ، بجامع مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ، فنقول : فيستحب قياسا على الفجر ، بجامع أن كلا منهما يفعل في وقت معين لفرض معين من فروض الصلاة ، فإن الوتر في وقت العشاء والفجر في وقت الصبح ، ولم يعهد من الشرع وضع صلاتي فرض في وقت واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية