صفحة جزء
[ ص: 430 ] فصل

اختلفوا في ترتيب الأسئلة على مذاهب :

أحدها : لا يجب ترتيبها ، ولا حجر على المعترض فيما يورده منها على أي وجه اتفق .

الثاني : يجب الترتيب ، إذ لو جاوزنا إيرادها على أي وجه اتفق لأدى إلى التناقض من حيث إنه قد يوجد المنع بعد المعارضة ، أو يوجد النقض أو المطالبة قبل المنع ثم يمنع بعد ذلك . وهو ممتنع لما فيه من المنع بعد التسليم والإنكار بعد الإقرار . قال الآمدي : وهذا هو المختار ، ولكن بشرط كونه عارفا ، وإلا فيفوت عليه أكثر مقصوده في الاسترشاد .

الثالث : إن اتحد جنس السؤال ، كالنقض والمطالبة والمعارضة في الأصل والفرع جاز إيرادها من غير ترتيب ، لأنه لا تناقض . وهي بمنزلة سؤال واحد وحكى الآمدي في هذا القسم اتفاق الجدليين . فإن تعددت أجناسها ، كالمنع من المطالبة والنقض والمعارضة ونحوه نظر : فإن كانت الأسئلة غير مرتبة قال الآمدي : فأجمعوا على جواز الجمع بينها إلا أهل سمرقند ، فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط . وإن كانت مرتبة ، كالمنع والمعارضة ، فيقدم المنع ثم المعارضة ولا يعكس هذا الترتيب ، وإلا لزم الإنكار بعد الإقرار ، ونقله الآمدي عن أكثر الجدليين .

وقيل : لا يمنع ذلك بعد تسليم وجود الوصف وإن سلم عن المنع تقديرا فلا يسلم عن المطالبة وغيرها . وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق . والمختار أنه [ ص: 431 ] لا بد من ترتيب الأسئلة إذا لزم من تقديم بعضها على بعض منع بعد التسليم . فإن لم يلزم ذلك كان الترتيب مستحسنا لا لازما . فعلى هذا اختلفوا :

قال المحققون من المتأخرين : الترتيب المستحسن أن يبدأ بالمطالبات أولا ، لأنه إذا لم يثبت أركان القياس لم يدخل في جملة الأدلة . ثم بالقوادح لأنه لا يلزم من كونه على صورة الأدلة أن يكون صحيحا . ثم بالمعارضة إذ لا يلزم من صحته وجوب العمل . ثم إذا بدأ بالمنوع فالأولى يمنع وجود الوصف في الفرع ، لأنه دليل الدعوى ، ثم يمنع ظهوره وانضباطه ، لأن ذلك شرط كونه دليلا ، ثم يمنع كونه علة في الأصل ، لأنه دليل الدليل . فإذا نقض المنوع شرع في القوادح ، فيبدأ بالقول الموجب لوضوح مأخذه ، ثم بفساد الوضع واختصاصه بالشرع ، ثم بالقدح في المناسبة كأنه يتبين به فوات شرط كونه علة ، ثم بالمعارضة في الأصل ، لأنه يرجع إلى تطريق الإكمال لشهادة الأصل ، ثم بالنقض والكسر لأنه معارضة لدليل الاعتبار بدليل الإهدار ، ثم بالمعارضة في الفرع . وليس في هذا الترتيب شيء لازم سوى تأخير المعارضة . وذهب الأكثرون من القدماء ، كما قاله أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل [ إلى أنه ] يبدأ بالمنع من الحكم في الأصل ، لأنه إذا كان ممنوعا لم يجب على السائل أن يتكلم على كون الوصف ممنوعا أو مسلما ، ولا كون الأصل معللا بتلك العلة أو بغيرها ، ثم يطالبه بإثبات الوصف في الفرع بأن الأصل معلل بتلك العلة ، ثم باطراد العلة ، ثم بتأثيرها ، ثم بكونها موضوعة ومحلها غير فاسد الوضع ، ثم بالمحاماة عن مخالفة الإجماع والنص ، ثم بالقلب ، ثم بالمعارضة . ( قال ) هذا هو الترتيب الصحيح . وكذا جعل إمام الحرمين المعارضة آخر الأسئلة ، لأنه إذا سلم الدليل خاليا عن القوادح كلها فإذ ذاك [ ص: 432 ] يرد عليه سؤال المعارضة .

وقال أكثر الجدليين - وارتضاه متأخرو الأصوليين : أول ما يبدأ به الاستفسار ، ثم فساد الاعتبار ، ثم فساد الوضع ، ثم يمنع حكم الأصل ، لأن الحكم مقدم على العلة ، لأن استنباط العلة بعده ، ثم منع وجود العلة في الأصل ، ثم النظر في علية الوصف ، كالمطالبة ، وعدم التأثير ، والقدح في المناسبة ، والتقسيم ، وعدم ظهور الوصف وانضباطه ، وكون الحكم غير صالح للإفضاء إلى ذلك المقصود ، ثم النقض والكسر ، لكونهما معارضة للدليل ، ثم المعارضة في الأصل لأنها معارضة للعلة فكان متأخرا عن تعارض دليل العلة والمتعدية والتركيب ، لأن حاصلها يرجع إلى المعارضة في الأصل ، ثم بعده ما يتعلق بالفرع لمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه بحكم الأصل ، ومخالفته للأصل في الضابط في الحكم ، والمعارضة في الفرع ، وسؤال القلب ، ثم بعده القول بالموجب ، لتضمنه لتسليم كل ما يتعلق بالدليل في الجملة ، مع بقاء النزاع . ثم بعد ذلك المعارضة لأنها تسليم الدليل بخلاف القول بالموجب فإنه نزاع في دلالة الدليل على الحكم مع الاعتراف به . وقد أورد على هذا الترتيب إشكالان :

أحدهما : أنه أخل بذكر الفرق ، والقلب ، فإن كان ذلك لأجل أنهما مندرجان تحت المعارضة وجب أن لا يذكر النقض ، لأنه معارضة للدليل على العلية ، فهو مندرج تحت المعارضة ، وأن لا يذكر المطالبة ، ولا القول بالموجب ، لأنهما يرجعان إلى المنع .

الثاني : أنه أخر القول بالموجب عن النقض وعن غيره من الاعتراضات ، وقدمه على المعارضة . فإن كان ذلك لأجل الدليل إذا لم يسلم [ ص: 433 ] من القوادح ، كالنقض وغيره لا يقال بموجبه لزم أن يتأخر أيضا القول بالموجب عن المعارضة ، لأن المعارضة أيضا من جملة القوادح ، لأنها مضادة للدليل ، وما لم يسلم الدليل عن القوادح لا يقال بموجبه ، وإن كان سبب تقدمه على المعارضة كون الدليل لم ينصب في موضعه توجه عليه القول بالموجب كذلك ، فليقدم القول بالموجب على سائر الأسئلة المتأخرة عن فساد الوضع لأنه صار شبيها بفساد الوضع فيظهر أن حق القول بالموجب أن يتقدم على جميعها أو أن يتأخر عن جميعها .

وحكى ابن السمعاني عن أصحابنا العراقيين أنهم قالوا : أول ما يبدأ السائل من الاعتراض أن ينظر في المختلف فيه هل يجوز إثباته بالقياس ، فيمنع من القياس إن كان لا يجوز ، ثم ينظر في الأصل هل يجوز أن يعلل ، ثم ينظر في العلة هل يجوز أن يكون مثلها علة ، ثم يذكر الممانعة في الأصل إن لم يكن مسلما ، ثم يطالب بتصحيح العلة في الأصل ، ثم يقول بموجب العلة إن أمكنه ، ثم ينقض . ومنهم من يقدم النقض على القول بالموجب ثم يأتي على ما بقي من عدم التأثير والكسر وفساد الوضع . ثم يأتي بالقلب والمعارضة . ( قالوا ) : وإن خالف ما ذكرناه وبدأ بغيره جاز ، وإن كان قد ترك الأحسن إلا في الممانعة والنقض فإنه يجوز أن ينقض ثم يمانع . لأن الناقض يعترف بوجود العلة وأما المانع فيمنع وجود العلة ، فإذا مانع بعد المناقضة فقد رجع فيما سلم ، وهذا لا يجوز .

التالي السابق


الخدمات العلمية