صفحة جزء
[ ص: 441 ] فصل في الفرض والبناء

اعلم أن للمسئول في الدلالة ثلاثة طرق :

أحدها : أن يدل على المسألة بعينها . والثاني : أن يفرض الدلالة في بعض شعبها وفصولها .

والثالث : أن يبني المسألة على غيرها ، فإن استدل عليها بعينها فواضح . وإن أراد أن يفرض الكلام في بعض أحوالها جاز ، لأنه إذا كان الخلاف في الكل وثبت الدليل في بعضها ثبت الباقي بالإجماع . وإن أراد أن يفرض الدلالة في غير فرد من أفراد المسألة لم يجز . وأما إذا أراد أن يبني المسألة على غيرها فيجوز ، لأنه طريق من طرق المسألة . وإما أن يبنيها على مسألة أصولية ، كقول الظاهري في الغسل لا . بناء على منع القياس ، وإما أن يبنيها على مسألة أخرى فرعية ، كالخلاف في الشعر هل ينجس بالموت ؟ بناء على أنه هل تحله الحياة أم لا ؟ هذا إذا كان طريقهما واحدا . فإن اختلف لم يجز بناء بعضها على بعض . كما لو سئل الحنفي عن قتل المسلم بالكافر فقال : أنا أبنيه على أن الحر يقتل بالعبد ، فهذا لا يصح فيه البناء ، لأنهما مسألتان مختلفتان .

واعلم أنه قد كثر في عباراتهم ( والفرض والبناء ) من غير تحقيق . ومعناه : أن يسأل المستدل عاما فيجيبه خاصا ، مثل أن تكون المسألة ذات صور ، فيسأل السائل عنه سؤالا لا يقتضي الجواب على جميع صورها ، فيجيب المستدل عن صورة أو صورتين منها ، لأن الفرض هو القطع [ ص: 442 ] والتقدير ، فكأن المستدل اقتطع تلك الصورة عن أخواتها فأجاب عنها . وهو إما فرض في الفتوى ، كما لو سئل في البيع الفاسد ، هل ينعقد أم لا ؟ فيقول : لا ينعقد بيع درهم بدرهمين ، لورود النهي ، فإن بيع الدرهم بالدرهمين من صور البيع الفاسد لا عينه . وإما فرض في الدليل بأن يبني عاما ويدل خاصا ، مثل أن يقول : لا ينعقد البيع الفاسد ، لأنه { صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع درهم بدرهمين } . والضابط أن يكون المستدل يساعده الدليل عليها ، فإذا تم له فيها الدليل بنى الباقي من الصور عليها ، ولذلك يسمى الفرض والبناء . وإذا عرفت هذا فقد اختلف في جوازه : فذهب ابن فورك إلى أنه لا يجوز ، لأن حق الجواب أن يطابق السؤال . وذهب غيره من الجدليين إلى الجواز ، لأن المسئول قد لا يجد دليلا إلا على بعض صور السؤال ، ولأنه قد يرد على جوابه العام إشكال لا يندفع ، فيتخلص منه بالفرض الخاص .

وقال إمام الحرمين : إنما يجوز إذا كانت علة الفرض شاملة لسائر الأطراف . ( قال ) : والمستحسن منه هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل ، وذلك محمول على استشعار انتشار الكلام في جميع الأطراف وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها . وحاصله : إن ظهر انتظام العلة العامة في الصورتين كان مستحسنا وإلا كان مستهجنا . وفائدته كون العلة قد تخفى في بعض الصور ، وفي بعضها أظهر . فالتفاوت بالأولوية خاصة والعلة واحدة . وهذا بمثابة توجه النهي [ ص: 443 ] إلى جميع أذيات الأب إلى التأفيف . ويشبه الفرق بين التواطؤ والمشترك ، فإن نسبة الآحاد إلى التواطؤ متساوية ، بخلاف المشكل .

قال ابن المنير : وأعجبني من الشيخ عز الدين بن عبد السلام كلام أورده في استبعاد مذهب الشافعي في مسألة الوصية بجزء من ماله ، أو سهم ، فإن مذهب الشافعي حمل الوصية على الأقل : فمهما سلمه الورثة خرجوا به عن العهدة . فكان يستبعد هذا ويفرض فيما لو احتضر متمول واسع المال فعطفه الحاضرون على ولد ولد توفي في حياته وقيل له : إن ولد ولدك لا ميراث له مع غيره ، فلو وصلت رحمه وأغنيت فقره بعدك بأن توصي له بشيء من مالك ليكون له مع ولدك مدخل . فقال المحتضر : قد أوصيت له بسهم من مالي ، وأوصى عمه به حين توفي هذا المحتضر ، فعمد ولده إلى سفرجلة أو تمرة فسلمها لولد الولد زاعما أن هذا مراد أبيه لقطع كل عاقل بأن هذا الوارث مدافع للوصية مراد . وكان الشيخ يستصوب مذهب مالك في حمله ( السهم ) على إلحاق الموصى له بسهمان الورثة . لكن يرجع إلى أقلهم سهما فيعطى مثله جمعا بين المعرف وبين الأصل في الحمل على الأقل . ومثل هذا الفرض يستحسن لا باعتبار تعدد العلل ، ولكن باعتبار تمكن الصورة المفروضة من الدليل وإن كان شاملا للجميع ولكن شمولا متفاوتا .

قال : ثم وقع لي بعد ذلك أن الشيخ في فرضه إيقاف للأذهان في مباديها ، وإذا تؤمل اندفع التشنيع من الفقيه المفتي بأقل شمول لا الموصي الذي هو الحقيق باللوم وآية ذلك أن الموصي لو قال في السياق المذكور : ادفعوا له أقل متمول لم يكن بد من قبول السفرجلة ونحوها على سائر المذاهب . وكذا لو صرح بها ، ولا لوم على الفقيه إذا قال : لا يستحق الموصى به أكثر من ذلك ، فكذلك إذا عدل الموصي عن التعيين وقال : ادفعوا له سهما أو جزءا . وقد اتفقنا على أن ( الأكثر ) لا ينضبط . وكذلك [ ص: 444 ] الأوسط ) لتعدد حال الوسائط ، فلم يبق من الأطراف الثلاثة إلا ( الأقل ) فكان كما لو صرح ، فاللائمة حينئذ على الموصي لا على المفتي . واعلم أن بناء مسألة على أخرى إن كان قبل الشروع في الاستدلال فلا خلاف في جوازه ، وإن كان بعده فإن ابتدأ الدلالة ولم يذكر أنه يريد البناء فلا يخلو : إما أن يكون من الأصول ، كاستدلال المالكي على الحنفي بإجماع أهل المدينة في مسألة الأذان . فإن سلم الحنفي تسليما جدليا عدل إلى غيره من الأسئلة ، وإلا قال له المسئول : هذا أصل من أصولي ، وأنا أبني فرعي على أصلي ، فإن سلمت وإلا نقلت الكلام ، فإن نقل جاز ، وإن قال : لا أسلم ولا أنقل الكلام إليه لم يكن له ذلك . وإن كان الذي بنى عليه فرعا يمانعه السائل ، فإن أراد نقل الكلام إلى مسألة البناء فهل يجوز ذلك ؟ قال أبو علي الطبري : ليس له ذلك ، لأنه انتقال . وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي : له ذلك ، وهو الصحيح عندي ، اعتبارا ببنائها على أصل من الأصول الظاهرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية