صفحة جزء
[ ص: 20 ] الخامسة : استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محل الخلاف : وهو راجع إلى حكم الشرع ، بأن يتفق على حكم في حالة ثم تتغير صفة المجمع عليه ويختلف المجمعون فيه ، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال . مثال : إذا استدل من يقول : إن المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته لا تبطل صلاته ، لأن الإجماع منعقد على صحتها قبل ذلك ، فاستصحب إلى أن يدل دليل على أن رؤية الماء مبطلة . وكقول الظاهرية : يجوز بيع أم الولد ، لأن الإجماع انعقد على جواز بيع هذه الجارية قبل الاستيلاد ، فنحن على ذلك الإجماع بعد الاستيلاد . وهذا النوع هو محل الخلاف ، كما قاله في القواطع " وكذا فرض أئمتنا الأصوليون الخلاف فيها : فذهب الأكثرون - منهم القاضي ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والغزالي - إلى أنه ليس بحجة . قال الأستاذ أبو منصور : وهو قول جمهور أهل الحق من الطوائف ، وقال الماوردي والروياني في كتاب القضاء " : إنه قول الشافعي وجمهور العلماء ، فلا يجوز الاستدلال بمجرد الاستصحاب ، بل إن اقتضى القياس أو غيره إلحاقه بما قبل الصفة ألحق به ، وإلا فلا .

وقال ابن السمعاني : إنه الصحيح من المذهب . وذهب أبو ثور وداود الظاهري إلى الاحتجاج به ، ونقل ابن السمعاني عن المزني وابن سريج والصيرفي وابن خيران ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي القطني ، وأبي الحسين القطان . قال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " : " كان أبو الحسين بن القطان شديد القول به ، حتى أنه لو اقتصر ما كان يخرج إلى استصحاب الحال . قال : وإنما أخذه أهل الكوفة من أصحابنا ، وأهل ما وراء النهر من أهل سمرقند وغيرهم أيضا شديدو القول به . انتهى .

واختاره الآمدي وابن الحاجب . وقال سليم في التقريب " إنه الذي ذهب إليه شيوخ أصحابنا ، فيستصحب حكم الإجماع حتى يدل [ ص: 21 ] الدليل على ارتفاعه . وحكي الأول عن الحنفية والظاهرية ومتكلمي الأشعرية . والمعروف عن الظاهرية إنما هو الثاني . قال الشيخ أبو إسحاق ، كان القاضي أبو الطيب يقول : داود لا يقول بالقياس الصحيح ، وهنا يقول بقياس فاسد ، لأنه حمل حالة الخلاف على حالة الإجماع من غير علة جامعة .

والمختار هو الأول ، لأن محل الوفاق غير محل الخلاف ، فلا يتناوله بوجه ، وإنما يوجب استصحاب الإجماع حيث لا يوجد صفة تغيره ، ولأن الدليل إن كان هو الإجماع فهو محال في محل الخلاف ، وإن كان غيره فلا مستند إلى الإجماع الذي يزعم أنه يستصحب . قال أصحابنا : والقول باستصحاب الإجماع في محل الخلاف يؤدي إلى التكافؤ ، لأنه ما من أحد يستصحب حال الإجماع في شيء إلا ولخصمه أن يستصحبه في مقابله . وبيانه : أن في مسألة التيمم أن للخصم أن يقول : أجمعنا على بطلان التيمم برؤية الماء خارج الصلاة فنستصحبه برؤيته فيها ، وتغير الأحوال لا عبرة به . ونقل إلكيا عن الأستاذ أبي إسحاق أنه استدل على النكاح بلا ولي بأن الأصل في الأبضاع التحريم ، فمن ادعى ما يبيح فعليه الدليل ( قال ) : وهذا ليس بشيء ، فإنه يقال : الأصل التحريم قبل وجود أصل النكاح أو بعده ؟ .

[ ص: 22 ] إن قلت : قبله ، فمسلم ، أو بعده ، فهو محل النزاع ، ويمكن أن يجعل ذلك معارضة لكلامه . قلت : قال الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " : واتفق أن حضرني أبو علي الهروي يعني الزبيري ، وقال أنا أقرر الاستصحاب في موضع لا يمكن فيه المعارضة ، فقلت : هات فقال : إذا قال المستدل في إبطال الوقف : أن ما وقف قد تقرر بالاتفاق ملك المالك عليه فلا يزال إلا بدليل . فقلت : العكس فيه من وجوه : أحدها : أن يقال : ما يحصل من المنافع بعد الوقف قد حصل الاتفاق على أنها غير مملوكة ، لكونها معدومة ، فلا تدخل في ملك الواقف إلا بدليل . الثاني : أن الأصل أن لا ملك للواقف على الكراء الذي يأخذ بدلا عن المنافع ، فلا يملك إلا بدليل . الثالث : ما يتصرف فيه بعد الوقف من بيعه وهبته ، الأصل أنه لم يكن ثابتا . قال الأستاذ : إذا كانت مسائل الاستصحاب هكذا ، فلا يجوز أن يجعل من جملة الأدلة في الأحكام قال : وما ادعوه على الشافعي رضي الله عنه أنه قال بالاستصحاب فلم يذكره احتجاجا على طريق الابتداء ، وإنما ذكره على سبيل الترجيح بعد تعارض الأدلة . انتهى .

وقد أنكر ابن السمعاني القول بالاستصحاب جملة ، وقال : إنه الصحيح من مذهبنا . أما في استصحاب العام والنص قبل الخاص والناسخ فليس ذلك استصحابا ، لأن الدليل قائم وهو العام والنص . وأما استصحاب دليل العقل في براءة الذمة فإنما وجب استصحاب براءة الذمم لأن دليل العقل في براءة الذمة قائم في موضع الخلاف أيضا ، كما في العام والنص ، فوجب [ ص: 23 ] الحكم به . وأما في استصحاب الإجماع فالإجماع الذي كان دليلا على الحكم قد زال في موضع الخلاف فوجب طلب دليل آخر .

وهذه الطريقة حسنة ، وقد سبقه إليها إمام الحرمين . وبه تبين أن الخلاف فيما عدا استصحاب الإجماع لفظي ، وبه صرح إمام الحرمين . ثم قال ابن السمعاني : إنا لا نثبت براءة الذمة باستصحاب الحال ولا نحكم لشيء لأجل الاستصحاب ، لكن نطلب من المدعي حجة يقيمها ، فإذا لم يقم بقي الأمر على ما كان من غير أن تحكم بثبوت شيء . والخلاف واقع في ثبوت الحكم باستصحاب الحال ، وهذا لا نقول به في موضع ما . انتهى . وهذه طريقة أخرى تغاير الأولى ، قد ذكرها المتأخرون ، وحاصلها التفصيل بين الدوام والابتداء ، ونقول : ليس في الدوام إثبات ، وإنما هناك استمرار ما كان لعدم طريان ما يرفعه . وهي تنبني على الخلاف الكلامي في أن الباقي في محل البقاء هل يحتاج إلى مؤثر ؟ وفيه قولان : فإن قلنا : لا يحتاج وصحت وإلا لم ينتهض ، لأنك في الدوام تريد دليلا وأنت مثبت به فكيف نقول : لم نحكم لشيء ؟ وهذا الخلاف في أن الباقي هل يحتاج إلى مؤثر ينبني على اختلاف آخر في أن علة الحاجة إلى المؤثر ، هل هي الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، أو الإمكان بشرط الحدوث ، والحق أن العلة الإمكان ، وأن الباقي يحتاج إلى مؤثر ، كما تقرر في علم الكلام ، فعلى هذا لا تنتهض هذه الطريقة . وممن زعم أن الخلاف لفظي ابن برهان فقال في كتابه الكبير : إذا حقق استصحاب الحال لم يبق خلاف ، فإن قول القائل : الأصل يقتضي كذا ، فإنما يتمسك به إلى أن يقوم دليل على خلافه إما أن يريد بالأصل أصل الشرع ، أو أصل العقل ، فإن أراد العقل فالخصم لا يعترف أن العقل يقتضي حكما ، ولأن الأحكام العقلية إنما تثبت بدليل عقلي ، فلا يستصحب الحال فيها .

وإن أراد أصل الشرع فباطل أيضا ، لأن الأحكام الشرعية إنما .

[ ص: 24 ] تثبت بأدلة شرعية . وهذه طريقة أخرى . وقد يقال بالتزام الثاني بدليل شرعي مستقرأ من جزئيات الشريعة في العمل به . وبقي من الأنواع ما ذكره القاضي شريح الروياني أحد أئمة أصحابنا في كتاب روضة الحكام " أنه إذا كان للشيء أصل معلوم من الوجوب أو الحل أو الحظر فإنه يرد إليه ، ولا يترك بالشك ، ولا يخرج عنه إلا بدليل . فلو أسلم إليه في لحم ، فأتاه المسلم إليه بلحم ، فقال المسلم هو لحم ميتة ، أو ذكاة مجوسي ، فالقول قول القابض ، لأن الأصل تحريم ذلك ، لأن الحيوان إن كان محرما يبقى التحريم ما لم يعلم زواله . ولو اشترى صاعا من ماء بئر فيه قلتان ، ثم قال : أرده بالعيب فإن فأرة وقعت فيها ، فالقول قول الدافع ، لأن الأصل طهارة الماء . انتهى . وجعل ابن القطان القول بالاستصحاب يرجع إلى أن الباقي لا دليل عليه ، وهو أنه متى كنا على حال مجمع عليها فنحن عليها ، فمن ادعى الانفصال عنها احتاج إلى دليل . قال القرطبي : القول بالاستصحاب لازم لكل أحد ، لأنه أصل تنبني عليه النبوة والشريعة ، فإنا إن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور . انتهى .

وقد سبق أن هذا محل وفاق . وأما الأستاذ أبو منصور فجعل الخلاف معنويا مبنيا على الخلاف في حكم الأشياء قبل ورود الشرع ، فمن زعم أنها مباحة استصحب الحال في كل ما رآه مباحا فلا يحظره إلا بدليل .

ومن زعم أنها محرمة لم يستصحب شيئا . السادسة : وتصلح أن تكون قسيما لما سبق : استصحاب الحاضر في الماضي : وهو المقلوب فإن القسم الأول ثبوت أمر في الثاني لثبوته في الأول ، لفقدان ما يصلح للتعيين . وهذا القسم في ثبوته في الأول لثبوته [ ص: 25 ] في الثاني ، كما إذا وقع النظر في أن زيدا هل كان موجودا أمس في مكان كذا .

ووجدناه موجودا فيه اليوم ؟ فيقال : نعم ، إذ الأصل موافقة الماضي للحال . وهذا القسم لم يتعرض له الأصوليون ، وإنما ذكره بعض الجدليين من المتأخرين . فنقول : إذا ثبت استعمال اللفظ في هذا المدعي فندعي أنه كان مستعملا قبل ذلك ، لأنه لو كان الوضع غيره فيما سبق لزم أن يكون قد تغير إلى هذا الوضع ، والأصل عدم تغيره .

قال ابن دقيق العيد : وهذا كلام ظريف وتصرف غريب قد يتبادر إلى إنكاره ، ويقال : الأصل استقرار الواقع في الزمن الماضي إلى هذا الزمن ، أما أن يقال : الأصل انعطاف الواقع في هذا الزمان على الزمان الماضي فلا . وجوابه أن يقال : هذا الوضع ثابت ، فإن كان هو الذي وقع في الزمان الماضي فهو المطلوب ، وإن لم يكن فالواقع في الزمن الماضي ، فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال في الزمن الماضي .

وهذا وإن كان طريقا ، كما ذكرنا ، إلا أنه طريق جدل لا جلد ، والجدل طريق في التحقيق سالك على محج مضيق ، وإنما تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع ، فأما إذا استوى الأمران فلا بأس . قلت : وأما الفقهاء فظاهر قولهم إن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمن منافاة هذا القسم . وقال بعضهم : لم يقل به أصحابنا الفقهاء إلا في صورة واحدة ، وهي [ ما ] إذا اشترى شيئا وادعاه مدع وأخذه منه بحجة مطلقة ، فإنه يثبت له الرجوع على البائع .

قالوا : فإن البينة لا توجب الملك ولكنها تظهره ، فيجب أن يكون الملك سابقا على إقامتها ويقدر له لحظة لطيفة . ومن المحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي ولكنهم استصحبوا مقلوبا ، وهو عدم الانتقال فيه فيما مضى ، استصحابا للحال . وكذلك قالوا : إذا وجدنا ركازا ولم ندر هل هو إسلامي أم جاهلي ؟ يحكم بأنه جاهلي على وجه ، لأنا استدللنا بوجوده في الإسلام على .

[ ص: 26 ] أنه كان موجودا قبل ذلك . قلت : ومثله : إذا أشكل حال القرية التي فيها الكنيسة هل أحدثها المسلمون أم لا ؟ فقال الروياني : تقر ، استصحابا لظاهر الحال . ولم يحك الرافعي غيره . ويقاربها صور ( منها ) : لو أحرم بالحج وشك هل أحرم قبل أشهره أو بعدها ؟ كان محرما بالحج قالوا : لأنه على يقين منه هذا الزمن وفي شك مما تقدمه ، ويمكن أن يوجد أيضا ، فهذه القاعدة . ( ومنها ) : إذا اختلف الغاصب والمالك فالصحيح تصديق المالك . فقد استصحبوا مقلوبا ، وهو الحدوث فيما مضى استصحابا للحاضر . ويمكن خلافه ، وكذلك مسائل الانعطاف في استصحاب حكم الصوم على من نوى في النفل قبل الزوال ، والثواب على الوضوء جميعه إذا نوى عند غسل الوجه على وجه ، وتعليق العتق على قدوم زيد ، ثم يبيعه ، فقدم زيد ذلك اليوم ، ونظائره . .

التالي السابق


الخدمات العلمية