صفحة جزء
مسألة النافي للحكم هل يلزمه الدليل المثبت للحكم يحتاج للدليل بلا خلاف . وأما النافي فهل يلزمه الدليل على دعواه ؟ فيه مذاهب : أحدها : نعم ، وجزم به القفال والصيرفي ، واختاره ابن الصباغ وابن السمعاني ، ونقله الأستاذ أبو منصور عن طوائف أهل الحق ، ونقله ابن القطان عن أكثر أصحابنا ، وقال الماوردي : إنه مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء ، ولا يجوز نفي الحكم إلا بدليل ، كما لا يجوز إثباته إلا بدليل ، وحكاه الباجي عن الفقهاء والمتكلمين . وقال القاضي في التقريب " إنه الصحيح ، وبه قال الجمهور ، وقال صاحب المصادر " : إنه الصحيح ، [ ص: 33 ] لأنه مدع ، والبينة على المدعي ، ولقوله تعالى : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } فذمهم على نفي ما لم يعلموه مبينا ، فدل على أن كلا منهما عليه الدليل ، ولقوله تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } في جواب : { لن يدخل الجنة } .

الثاني : أنه لا يجب ، وحكاه الماوردي وابن السمعاني وغيرهما عن داود وأهل الظاهر ، لأن الأصل في الأشياء النفي والعدم ، فمن نفى الحكم فله أن يكتفي بالاستصحاب ، لكن ابن حزم في الأحكام " صحح الأول . والثالث : أن يلزمه في النفي العقلي دون الشرعي ، حكاه القاضي في التقريب " ، وابن فورك . الرابع : قال الغزالي : إنه المختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل ، والنفي فيه كالإثبات ، بخلاف الضروري ، وظن بعضهم انفراد الغزالي به ، وليس كذلك ففي الكافي " للخوارزمي حكاية المذاهب الثلاثة . ثم قال : ومن أصحابنا من قال : لا يخلو إما أن يكون النافي شاكا في نفيه أو نافيا له عن معرفة ، فإن كان شاكا فلا علم مع الشك ، وإن كان يدعي نفيه عن معرفة فتلك المعرفة إما أن تكون ضرورية أو استدلالية ، فإن كانت ضرورية فلا منازع في الضروريات ، وإن كانت استدلالية فلا بد من إبراز الدليل . انتهى . وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص " : الخلاف فيما لا يعلم ثبوته وانتفاؤه بالضرورة ، وإنما يعلم بالدليل ، ويمكن إقامته عليه ، فأما ما يعلم حسا واضطرارا فلا سبيل إلى إقامة دليل على ثبوته ونفيه ، كعلم الإنسان بوجود نفسه وما يجدها عليه في أنه ليس في لجة بحر ولا على جناح طائر ونحوه . الخامس : إن نفي علم نفسه بأن يقول : لا أعلم ، فلا يلزمه الدليل ، وإن كان ينفي الحكم فيلزمه الدليل ، لأن نفي الحكم حكم ، كما أن الإثبات [ ص: 34 ] حكم

، ومن نفى حكما أو أثبته احتاج إلى الدليل ، قال ابن برهان في الأوسط " : وهذا التفصيل هو الحق . والسادس : ذكره بعض الجدليين : إن ادعى لنفسه علما بالنفي فلا بد له من الدليل على ما يدعيه ، وإن نفى علمه فهو مخبر عن جهل نفسه ، لكن الجاهل يجب أن يتوقف في إثبات الأحكام ولا يحكم فيها بنفي ولا إثبات . واختاره المطرزي في العنوان " وهو قريب من قول أصحابنا : إن الإنسان إن حلف على فعل نفسه حلف على البت لإمكان اطلاعه عليه أو على فعل غيره حلف على نفي العلم . والسابع : قاله ابن فورك : النافي لحكم شرعي إذا قال : " لم أجد فيه دليلا وقد تصفحت الدلائل " وكان من أهل الاجتهاد ، كان له دعوى ذلك . ويرجع إلى ما تقتضيه العقول من براءة الذمة . قال : وهذا النوع قريب من استصحاب الحال ، فيجيء على قول من يقول بالإباحة أو الحظر أن لا دليل عليه ، فأما من قال بالوقف فلا يصح ذلك إلا على طريق استصحاب الحال الشرعي . والثامن : أنه حجة دافعة لا موجبة ، حكاه أبو زيد في التقويم " . والتحقيق أن القائل : بأنه لا دليل عليه ، إن أراد أنه يكفيه استصحاب العدم الأصلي بأن الأصل يوجب ظن دوامه فهو صحيح وإن أراد أنه لا دليل عليه ألبتة ، وحصول العلم أو الظن بلا سبب فهو خطأ ، لأن النفي حكم شرعي ، وذلك لا يثبت إلا بدليل . وقال الهندي : في هذه خلاف ، لأنه إن أريد بالنافي من يدعي العلم أو الظن بالنفي فهذا يجب عليه الدليل ، كما في الإثبات ، لأن المسألة مفروضة فيما لا يعلم نفيه بالضرورة ، وإن أريد من يدعي عدم علمه أو ظنه فهذا لا دليل عليه ، لأنه يدعي جهله بالشيء ، والجاهل بالشيء غير مطالب بالدليل على جهله ، كما لا يطالب به من يدعي أنه لا يجد ألما ولا جوعا ولا حرا ولا بردا .

[ ص: 35 ] مناظرة قال ابن العربي رحمه الله : ذكرت حكما بحضرة الإمام أبي الوفاء ابن عقيل ، فطولبت بالدليل فقلت : لا دليل علي ، لأني ناف ، والنافي لا دليل عليه . فقال لي : ما دليلك على أن النافي لا دليل عليه ؟ قلت : هذا لا يليق بمنصبك ، أنا ناف أيضا في قولي " لا دليل على النافي " فكيف تطالبني بالدليل ؟ فأجاب : يدل على اللزوم بأن يقال : النافي مفت ، كما أن المثبت مفت ، والفتوى لا تكون إلا بدليل . واستشهد بمسألة ، وهي أنه لو قامت البينة على رجل أنه كان بالكرخ يوم السبت ، وشهدت أخرى أنه لم يكن بها يوم السبت ، بل بالموصل . وكذلك من قال : إن الله واحد يطالب بالدليل ، وليست الوحدانية إلا نفي الثاني . فأجبت بأن هذا دليل باطل ، لأنك تروم به إثبات محال ، وهو الدليل على النافي ، وذلك لأن الأسباب المقتضية مع تشعب طرقها وتقارب أطرافها فما من سبب يتعرض لإبطاله إلا ويجوز فرض تعلق الحكم به ، وهذا لا طريق إليه ، مع أنه يفوت بهذا مقصود النظر من العثور على الأدلة وبدائع الأحكام ، قلت : وما هذا إلا كالمدعي والمنكر ، فإن المدعي مثبت والمنكر ينفي ولا يطالب بإقامة البينة على نفيه . وأما مسألة الشهادة فلا تلزم للتعارض بين النفي والإثبات . وأما الوحدانية فالتعارض لإثبات إله على صفة ، فإثبات صفة الوحدانية فيها نفي الشركة .

التالي السابق


الخدمات العلمية