صفحة جزء
وأما تقليد المجتهد لهم ففيه ثلاثه أقوال للشافعي ، ثالثها : يجوز إن انتشر قوله ولم يخالف ، وإلا فلا . وقد أفرد الغزالي رحمه الله هذه المسألة بالذكر بعد الكلام في أن قول الصحابة حجة أم لا ؟ فقال في المستصفى " : إن قال قائل : إذا لم يجب تقليدهم ، هل يجوز تقليدهم ؟ قلنا : أما العامي فيقلدهم . وأما العالم فإن جاز له تقليد العالم جاز له أن يقلدهم ، وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي في تقليد الصحابة ، فقال في القديم : يجوز إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف . وقال في موضع آخر : يقلد وإن لم ينتشر . وقال : ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد العالم عالما آخر . نقل المزني عنه ذلك وأن العمل على الأدلة التي فيها يجوز للصحابي الفتوى ، وهو الصحيح المختار عندنا . انتهى .

وقد تبعه على إفراد هذه المسألة وجعلها فرعا لما قبلها ابن السمعاني والرازي وأتباعه والآمدي . ويوافقه حكاية ابن القطان في كتابه قولين في الصحابي إذا قال قولا ولم ينتشر : ( أحدهما ) : أن تقليده واجب ، وليس للتابعي مخالفته . و ( الثاني ) : أن له مخالفته والنظر في الأدلة . وأعرض ابن الحاجب [ ص: 79 ] عن إفراد هذه المسألة بالذكر ، لأنها عين ما قبلها ، وهو الحق ، لأن الظاهر أن الشافعي حيث صرح بتقليد الصحابي لم يرد به التقليد المشهور ، وهو قبول قول غيره ممن لا يجب عليه اتباعه من غير حجة ، بل مراده بذلك الاحتجاج فإنه استعمله في موضع الحجة فقال في مختصر المزني " ، في باب القضاء في الكلام على المشاور : ولا يقبل وإن كان أعلم منه حتى يعلم كعلمه أن ذلك لازم له ، فأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد الرسول . هذا نصه . فأطلق اسم التقليد على الاحتجاج بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا سيما مع ما استقر من قوله المتكرر في غير موضع بالنهي عن التقليد والمنع منه .

ويدل على ذلك قول الماوردي والجوري : إن مذهب الشافعي في القديم أن قول الصحابي حجة بمفرده إذا اشتهر ولم يظهر له مخالف . قال الماوردي : لا سيما إذا كان الصحابي إماما ، وأغرب ابن الصباغ فحكى ذلك عن الجديد وقد سبق . ثم قول الغزالي أنه رجع عنه في الجديد معارض بما نص عليه في كتاب الأم " في غير موضع بتقليد الصحابة ، كما سبق في البيع بشرط البراءة . وقوله : " قلته تقليدا لعثمان " نقله المزني في مختصره ، والربيع في اختلاف العراقيين " فإن كان أراد الشافعي بالتقليد للصحابي في القديم معناه المعروف فهو كذلك هنا أيضا في الجديد . والأظهر أنه أراد به الاحتجاج بقول الصحابي ، وأطلق اسم التقليد عليه مجازا كما أطلقه في الاحتجاج بقول النبي صلى الله عليه وسلم . وقد قال الغزالي في المستصفى " بعدما سبق : فإن قيل : فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم لقول عثمان . ولذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة لقول عثمان . قلنا له : في مسألة شرط البراءة أقوال ، فلعل هذا مرجوع عنه . انتهى .

وهذا مردود بأنا [ ص: 80 ] قد بينا أنه نص عليه في غير موضع من كتبه الجديدة وقال : إنه الذي ذهب إليه ، وبه قطع أبو إسحاق المروزي وابن خيران وغيرهما ، ولم يجعلا للشافعي قولا في المسألة غيره ، وهو الذي صححه المتأخرون . وأما مسألة تغليظ الدية فقد احتج الشافعي فيها بما روي عن عثمان أنه قضى في امرأة قتلت بالدية وثلث الدية ، وروي نحوه عن عمر وابن عباس ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، فيكون اعتمد ذلك بناء على أنه إجماع سكوتي ، أو لأنه قضى به عثمان ، وهو قد نص في الجديد على الرجوع إلى قول أحد الخلفاء الأربعة لأنه يشتهر غالبا بخلاف قول المفتى . وقد حكى الغزالي أيضا في الموضع المشار إليه أيضا أن الشافعي اختلف قوله فيما إذا اختلف الإفتاء والحكم من الصحابة ، فقال مرة : الحكم أولى ، لأن العناية به أشد والمشورة فيه أبلغ . وقال مرة : الفتوى أولى ، لأن سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة لأولي الأمر . وعزا هذا الاختلاف للقديم وجعله مرجوعا عنه . وفيه من النظر ما سلف نصه في كتبه الجديدة . تنبيه ظهر مما ذكرناه أن ذكر المنهاج هذا القول الثالث في أصل مسألة الحجية ليس بغلط ، كما زعم شراحه ، بل هو الصواب . .

التالي السابق


الخدمات العلمية