صفحة جزء
[ ص: 83 ] المصالح المرسلة . قد مر الكلام في القياس ، في المناسب الذي اعتبره الشارع أو ألغاه ، والكلام فيما جهل ، أي سكت الشرع عن اعتباره وإهداره ، وهو المعبر عنه ب " المصالح المرسلة " . ويلقب ب " الاستدلال المرسل " . ولهذا سميت " مرسلة " أي لم تعتبر ولم تلغ . وأطلق إمام الحرمين وابن السمعاني عليه اسم " الاستدلال " ، وعبر عنه الخوارزمي في " الكافي " ب " الاستصلاح " . قال : والمراد بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشرع بدفع المفاسد على الخلق . وفسره الإمام والغزالي بأن يوجد معنى يشعر بالحكم مناسب له عقلا ، ولا يوجد أصل متفق عليه ، والتعليل المصور جار فيه . وفسره ابن برهان في الأوسط " بأن لا يستند إلى أصل كلي ولا جزئي . وفيه مذاهب .

أحدها : منع التمسك به مطلقا ، وهو قول الأكثرين ، منهم القاضي وأتباعه ، وحكاه ابن برهان عن الشافعي . قال الإمام : وبه قال طوائف من متكلمي الأصحاب . الثاني : الجواز مطلقا ، وهو المحكي عن مالك رحمه الله ، قال الإمام [ ص: 84 ] في البرهان " : وأفرط في القول به حتى جره إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لها مستندا ، وحكاه غيره قولا قديما عن الشافعي . وقال أبو العز المقترح في حواشيه على البرهان " : إن هذا القول لم يصح نقله عن مالك ، هكذا قاله أصحابه ، وأنكره ابن شاس أيضا في التحرير " على الإمام وقال : أقواله تؤخذ من كتبه وكتب أصحابه ، لا من نقل الناقلين .

وكذلك استنكره القرطبي في كتابه فقال : ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى الاعتماد عليه ، وهو مذهب مالك . قال : وقد اجترأ إمام الحرمين وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الأصل . وهذا لا يوجد في كتاب مالك ، ولا في شيء من كتب أصحابه .

وهذا تحامل من القرطبي ، فإن الإمام قد حمل كلام مالك على ما يصح . وسيأتي . وقد قال ابن دقيق العيد : نعم ، الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع ، ويليه أحمد بن حنبل . ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة ، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال على غيرهما . انتهى . وقال القرافي : هي عند التحقيق في جميع المذاهب ، لأنهم يعقدون ويقومون بالمناسبة ، ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار ، ولا يعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك . قال : وإمام الحرمين قد عمل في كتابه الغياثي " أمورا وحررها وأفتى بها ، والمالكية بعيدون عنها ، وحث عليها وقالها للمصلحة المطلقة . وكذلك الغزالي في شفاء الغليل " مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا في المصلحة المرسلة . قلت : وسيأتي تحقيق مذهب الرجلين . وقال البغدادي في جنة الناظر " : لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في المصالح ، فإن مالكا يقول : إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياتها وكلياتها وأن لا مصلحة .

[ ص: 85 ] إلا وهي معتبرة في جنسها ، لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة قال : وما حكاه أصحاب الشافعي عنه لا يعدو هذه المقالة إذ لا أخص منها إلا الأخذ بالمصلحة المعتبرة بأصل معين ، وذلك مغاير للاسترسال الذي اعتقدوه مذهبا ، فبان أن من أخذ بالمصلحة غير المعتبرة فقد أخذ بالمرسلة التي قال بها مالك ، إذ لا واسطة بين المذهبين .

والثالث : إن كانت المصلحة ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع ، أو لأصل جزئي جاز بناء الأحكام . وإلا فلا . ونسبه ابن برهان في الوجيز " للشافعي وقال : إنه الحق المختار ، ومثله بقوله في المطلقة الرجعية : إنه لا يحل وطؤها ، لأن العدة شرعت لبراءة الرحم ، والوطء سبب الشغل ، فلو جوزناه في العدة لاجتمع الضدان . فليس لهذا الأصل جزئي ، وإنما أصله كلي مهدر ، وهو أن الضدين لا يجتمعان . وقال إمام الحرمين : ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى اعتماد تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة ، بشرط ملائمته للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول . وهذا قريب من نقل ابن برهان . وينبغي أن ينزل على ذلك قول الخوارزمي في " الكافي " : إن ظاهر كلام الشافعي يقتضي اعتبارها وتعليق أحكام الشرع بها . لكن إذا قيدناه بهذا انسلخت المسألة من المصالح المرسلة ، فإنه إذا شرط التقريب من الأصول الممهدة ، وفسره بالملاءمة كان من باب القياس في الأسباب ، فيكون من قسم المعتبر ، وبه يخرج عن الإرسال ، ويعود النزاع لفظيا . ولهذا قال ابن برهان في الأوسط " : لا يظن بمالك - على جلالته - أن يرسل النفس على سجيتها وطبيعتها ، فيتبع المصالح الجامدة التي لا تستند إلى أصول الشرع بحال ، لا على كلي ولا على جزئي . إلا أن أصحابه سمعوا أنه بنى الأحكام على المصالح المطلقة فأطلقوا النقل عنه في ذلك . ومثله قول إمام الحرمين ، في باب ترجيح الأقيسة : ولا نرى التعليق عنده بكل مصلحة ، ولم ير ذلك أحد من العلماء قال : ومن ظن ذلك بمالك فقد أخطأ .

[ ص: 86 ] وقال ابن المنير في الخلاف : من العلماء من رأى أن ورود الحكم المعين على الوفق نازل منزلة البينة ، ثم الملائمة نازلة منزلة تزكية البينة بالشهود المقررة عند التهمة ، فهذا يرد الاستدلال المرسل ، لأن صاحبه ما أقام على صحته بينة غير دعواه ، فلا يتوقع للتزكية ، ولا بينة . ومنهم من نزل الملائمة منزلة البينة على صدق الدعوى في صدق الوصف ، وجعل ورود الحكم المعين على الوفق كالاستظهار ، فلم يضره فواته في أصل الاعتبار . والرابع : اختيار الغزالي والبيضاوي وغيرهما تخصيص الاعتبار بما إذا كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية ، فإن فات أحد هذه الثلاثة لم يعتبر . والمراد ب " الضرورية " ما يكون من الضروريات الخمس التي يجزم بحصول المنفعة منها و " الكلية " لفائدة تعم جميع المسلمين احترازا عن المصلحة الجزئية لبعض الناس ، أو في حالة مخصوصة ، كمن أجاز للمسافر إذا أعجله السفر أن يدفع التبر لدار الضرب وينظر مقدار ما يخلص منه فيأخذ بقدره بعد طرح المئونة ، فهذه مصلحة لضرورة الانقطاع من الرفقة لكنها جزئية بالنسبة إلى شخص معين وحالة معينة .

ومثل الغزالي لاستجماعه الشرائط بمسألة التترس ، وهي ما إذا تترس الكفار بجماعة المسلمين ، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما من دون جريمة صدرت منه . قال الغزالي : فلا يبعد أن يقول المجتهد : هذا الأسير مقتول بكل حال ، لأنا لو كففنا عن الترس لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا ، فحفظ المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع ، لأنا نقطع أن الشارع يقصد تقليل القتل كما يقصد حسمه عند [ ص: 87 ] الإمكان ، فحيث لم يقدر على الحسم فقد قدرنا على التقليل ، وكان هذا التفاتا على مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة بالشرع لا بدليل واحد ، بل بأدلة خارجة عن الحصر ، ولكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب لم يشهد له أصل معين فينقدح اعتبار هذه المصلحة بالأوصاف الثلاثة وهو كونها ضرورية كلية قطعية . فخرج ب " الكلية " ما إذا أشرف جماعة في سفينة على الغرق ، ولو غرق بعضهم لنجوا فلا يجوز تغريق البعض . وب " القطعية " ما إذا شككنا في أن الكفار يتسلطون عند عدم رمي الترس ، وب " الضرورية " ما إذا تترسوا في قلعة بمسلم ، فلا يحل رمي الترس ، إذ لا ضرورة بنا إلى أخذ القلعة .

وهذا من الغزالي تصريح باعتبار القطع بحصول المصلحة لكن الأصحاب حكوا في مسألة التترس وجهين ، ولم يصرحوا باشتراط القطع . وقد يقال : إن هذا التفصيل يؤول إلى ما نقل عن الشافعي ، ولهذا قال إمام الحرمين : هو لا يستجيز التأني والإفراط في البعد ، وإنما يسوغ تعليق الأحكام لمصالح رآها شبيهة بالمصالح المعتبرة وفاء بالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول . واختاره إمام الحرمين أو نحوا منه . وقال القرطبي : هي بهذه القيود لا ينبغي أن يختلف في اعتبارها . وأما ابن المنير فقال : هو احتكام من قائله ، ثم هو تصوير بما لا يمكن عادة ولا شرعا : أما عادة فلأن القطع في الحوادث المستقبلة لا سبيل إليه ، إذ هو غيب عنها . وأما شرعا فلأن الصادق المعصوم أخبرنا بأن الأمة لا يتسلط عدو عليها ليستأصل شأفتها قال : وحاصل كلام الغزالي رد الاستدلال ، لتضييقه في قبوله باشتراط ما لا يتصور وجوده . انتهى .

وهذا [ ص: 88 ] تحامل منه ، فإن الفقيه يفرض المسائل النادرة لاحتمال وقوعها ، بل المستحيلة للرياضة . ولا حجة له في الحديث ، لأن المراد كافة الخلق ، وصورة الغزالي إنما هي في أهل محلة بخصوصهم استولى عليهم الكفار ، لا جميع العالم . وهذا واضح . وقال ابن دقيق العيد : لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح ، لكن الاسترسال فيها . وتحقيقها يحتاج إلى نظر شديد ربما خرج عن الحد المعتبر . وقد نقلوا عن عمر رضي الله عنه أنه قطع لسان الحطيئة بسبب الهجو ، فإن صح ذلك فهو من باب العزم على المصالح المرسلة ، فحمله على التهديد الرادع للمصلحة أولى من حمله على حقيقة القطع للمصلحة وهذا نحو النظر فيما يسمى مصلحة مرسلة قال : وقد شاورني بعض القضاة في ؟ قطع أنملة شاهد ، والغرض منعه عن الكتابة بسبب قطعها ، وكل هذه منكرات عظيمة الوقع في الدين ، واسترسال قبيح في أذى المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية