صفحة جزء
التفريع التعادل الذهني حكمه : الوقف ، أو التساقط ، أو الرجوع إلى غيرهما ، وأما التعادل في نفس الأمر فإن قلنا بالجواز وتعادلا ، وعجز المجتهد عن الترجيح وتحير ولم يجد دليلا آخر ، فاختلفوا على مذاهب : أحدها : أنه يتخير ، وبه قال الجبائي وابنه أبو هاشم قال إلكيا : وسويا في ذلك بين تعارض الخبرين والقياسين ، ونقله الرازي والبيضاوي عن القاضي ، والذي في التقريب " أنه رأي للقائلين بأن كل مجتهد مصيب والثاني : التساقط كالبينتين إذا تعارضتا ، ويطلب الحكم من موضع آخر ، ويرجع إلى العموم أو إلى البراءة الأصلية ، وهذا ما قطع به ابن كج في كتابه ، قال : لأن دلائل الله سبحانه لا تتعارض ، فوجب أن يستدل بتعارضهما على وهائها جميعا ، أو وهاء أحدها غير أنا لا نعرفه ، فأسقطناها جميعا ، وكلامه يشعر بتفريعه على القول بمنع التعادل ونقله إلكيا عن [ ص: 128 ] القاضي ، والأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر ، بالنسبة إلى الحديثين .

وأنكره ابن حزم في كتاب " الإعراب " ، وقال : إنما هو بعض شيوخنا ، وهو خطأ ، بل الواجب الأخذ بالزائد إذا لم يقدر على استعمالها جميعا ، فاستثنى أحدهما من الآخر ، الثالث : إن كان التعارض بين حديثين تساقطا ولا يعمل بواحد منهما ، أو بين قياسين فيتخير حكاه ابن برهان في الوجيز " عن القاضي ونصره والفرق أنا نقطع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما يتكلم بهما ، فأحدهما منسوخ قطعا ولم نعلمه ، فتركناهما ، بخلاف القياسين ، وقد عرف أن القاضي نسب إليه كل من هذه الأقوال ، الرابع : الوقف كالتعادل الذهني حكاه الغزالي وغيره ، وجزم به سليم في التقريب " ، واستبعده الهندي ، إذ الوقف فيه إلى غاية وأمد ، إذ لا يرجى فيه ظهور الرجحان ، وإلا لم تكن مسألتنا ، بخلاف التعادل الذهني فإنه يتوقف فيه إلى أن يظهر المرجح قلت : لعل قائله أراد بالتوقف عن الحكم والتحاقهما بالوقائع قبل ورود الشرع فيجيء فيه الخلاف المشهور ، لا وقف خبره ، ولم يذكر الإمام في البرهان " غيره ، قال : وهذا حكم الأصولي ، ولكن بما يراه أن الشريعة إذا كانت متعلقة بالمفتين ولم يشعر الزمان منهم فلا يقع مثل هذه الوقعة ، ومن هاهنا حكى ابن برهان في الوجيز " عن الإمام امتناع وجود خبرين لا ترجيح لأحدهما على الآخر .

والخامس : يأخذ بالأغلظ كما حكاه الماوردي والروياني والسادس : يصار إلى التوزيع إن أمكن تنزيل كل أمارة على أمر والأخرى على غيره كما في الثلثين يقسم بينهما على قول ، وكما في الشفعة توزع على عدد الرءوس وتارة على عدد الأنصباء ، والسابع : إن وقع بالنسبة إلى الواجبات ، فالتخيير ، إذ لا يمتنع [ ص: 129 ] التخيير في الشرع ، كمن ملك مائتين من الإبل وإن وقع بالنسبة إلى حكمين متناقضين ، كالإباحة والتحريم ، فالتساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية ذكره في المستصفى " والثامن : يقلد عالما أكبر منه ، ويصير كالعامي لعجزه عن الاجتهاد ، حكاه إمام الحرمين والتاسع : أنه كالحكم قبل ورود الشرع ، فتجيء فيه الأقوال المشهورة ، حكاه إلكيا الطبري ، وهو غير قول الوقف على ما سبق فيه .

تنبيهات الأول ما فرضناه من الخلاف عند العجز عن الترجيح وعن دليل آخر هو الصواب وصرح به الغزالي وغيره ، وأطلق جماعة الخلاف في مطلق التعادل ومرادهم ما ذكرناه الثاني ستأتي ، فيما إذا اختلف على العامي جواب مفتيين ، مذاهب أخرى ينبغي استحضارها هنا ، لكن المذهب هناك التخيير ، وهنا اختلف أصحابنا في الترجيح ، والفرق أن العامي يضطر إلى المرجح ، وأما المجتهد فله تصرف وراء التعارض الثالث إذا تخير فللمناظر ثلاثة أحوال : فإن كان مجتهدا تخير في إلحاقه بما شاء إن قلنا : كل مجتهد مصيب ، فإن قلنا : الحق في واحد ، امتنع التخيير ، قاله القاضي في التقريب " ، وإن كان مفتيا ، فقال القاضي : قالت [ ص: 130 ] المصوبة : لا يجوز له تأخير المستفتي ، بل يجزم بمقتضى أحدهما ، وقيل : يجوز وهو الأولى عندنا ، وبه أجاب في المحصول " واستشكل الهندي الجزم بأحدهما ، وقال : ليس في التخيير الأخذ بأي الحكمين شاء ، واختار رأيا ثالثا ، وهو أن المفتي بالخيار بين أن يجزم له الفتيا ، وبين أن يخيره ، إذ ليس في كل واحد منهما مخالفة دليل ولا فساد ، فيسوغ الأمران وإن كان حاكما ، فقال القاضي : أجمع الكل - يعني : المصوبة ، والمخطئة - أنه ليس له تخيير المتحاكمين في الحكم بأيهما شاء ، بل عليه بت الحكم باعتقاده ، لأنه نصب لقطع الخصومات ، ولو خيرهما لما انقطعت خصومتهما ، لأن كل واحد منهما يختار الذي هو أرفق له ، بخلاف حال المفتي فلو اختار القاضي إحدى الأمارتين وحكم بها لم يكن له أن يحكم بالأخرى في وقت آخر لأنه يؤدي إلى اتهامه بالحكم بالباطل ، حكاه القاضي عن كثير من القائلين بأن الكل مصيب ، وحكي عن العنبري جوازه ، وليس ما قاله ببعيد لأن هذه التهمة قائمة في الحكم إذا تغير اجتهاده ، وحكم بالقول وضده .

وقد قال عمر - رضي الله عنه - في المشركة : ذلك على ما قضينا ، وهذا على ما نقضي نعم ، احتج في المحصول " والمنهاج " للمنع { بقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : لا تحكم في قضية بحكمين مختلفين } وقد أنكر [ ص: 131 ] عليهم هذا الحديث ، وسئل عنه الذهبي فلم يعرفه ، قلت : وهو تحريف ، وإنما هو لأبي بكرة كذلك رواه النسائي في سننه " في الأقضية .

التالي السابق


الخدمات العلمية