صفحة جزء
مسألة قول العالم في المسألة بقولين مختلفين ، قال ابن السمعاني : لا يعلم [ ص: 132 ] قبل الشافعي به تصريحا وهو - رحمه الله - قد ابتكر هذه العبارة وذكرها في كتبه ، وقد أنكر عليه كثير من مخالفيه ونسبوه إلى الخطأ وقالوا : هذا دليل على نقصان الآلة ، وقلة المعرفة ، فقالوا : وأما الرواية عن أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما ، فذلك في حالتين مختلفتين ، والمجتهد قد يجتهد في مجتهد في وقت فيؤدي اجتهاده إلى شيء ، ثم يجتهد في وقت آخر فيؤدي إلى خلافه ، إلا أن الثاني يكون عن الأول ، وإنما المستنكر اعتقاده قولين مختلفين في وقت واحد ، في حادثة واحدة فهذا طعن المخالفين في القولين ، قال : وقد صنف بعضهم في ذلك تصنيفا ، ورأيت لأبي عبد الله البصري الملقب بجعل في هذا كتابا مفردا صنفه للمعروف بالصاحب ، وهو إسماعيل بن عباد ، أي في إنكار ذلك على الشافعي رضي الله عنه .

وقد قسم أصحابنا القولين تقسيما بينوا فيه فساد هذا الاعتراض ، وأن الذي قاله الشافعي ليس هو موضع الإنكار ثم ذكر كلام الماوردي الآتي واعلم أن الكلام في مسألة القولين في موضعين : ( أحدهما ) : ما طعن به على الشافعي ( والثاني ) : في كيفية إضافتهما إليه أما الأول فأجاب الأصحاب بأنه لا عيب فيه ، بل فيه دلالة على صحة قريحته ، وتبحره في الشريعة ، مع التنبيه على النظر في المأخذ ، ومعرفة أصول الحوادث ، وتعليمهم طرق الاستنباط ، وقال سليم الرازي : أنكر جماعة القولين ، وقالوا : إنما يسوغ ذلك على القول بأن كل مجتهد مصيب ، وأما [ ص: 133 ] على قوله : إن المصيب واحد فلا ، وقال المحققون : بل لمخرجها طرق فذكرها وقال ابن كج ، وابن فورك ، وغيرهما من قدماء الأصحاب : المستنكر اعتقادهما معا في حالة واحدة ، كما يستحيل كون الشيء على ضدين من الحدوث والقدم ، والوجود والعدم ، ومعلوم أن هذا ليس كذلك ، بل لقوله مخارج ثلاثة : ( أحدها ) : اعتقاده القطع ببطلان ما عدا ذين القولين ، وقد يكون واقفا فيهما ، وقد أجمعت الصحابة على قولين ولم ينكر عليهم ( ثانيها ) : أن يختلف قوله لتعارض الدليلين ، كقول عثمان رضي الله عنه : أحلتهما آية وحرمتهما آية ( ثالثها ) : أن يقوله على طريق التخيير لتساوي الدليلين عنده من جميع الوجوه بناء على أن كل مجتهد مصيب ، وهو كما عمل عمر في الشورى ، جعل الأمر بين ستة وحكى إمام الحرمين الاعتذار ( الأول ) عن أبي إسحاق المروزي ، وزيفه بأن الشافعي لا يقطع بتخطئة مخالفه ، ومن تدبر أصوله عرف ذلك ، وحكى ( الثالث ) عن القاضي ، وقال : إنه بناه على اعتقاده أن مذهب الشافعي تصويب المجتهدين ، وليس كذلك بل مذهبه أن المصيب واحد ، ثم لا يمكن التخيير فيما إذا كان أحد القولين تحريما والآخر تحليلا ، إذ يستحيل التخيير بين حرام ومباح قال : وعندي أنه حيث نص على قولين في موضع واحد ، فليس له فيها مذهب ، وإنما ذكر القولين لتردده فيهما ، وعدم اختياره لأحدهما ، ولا يكون ذلك خطأ منه ، بل يدل على علو رتبة الرجل ، وتوسعه في العلم وعمله بطرق الأشباه فإن قيل : فلا معنى لقولكم : للشافعي قولان إذ ليس [ ص: 134 ] له على هذه المسائل قول ولا قولان ، قلنا هكذا نقول ولا نتحاشى منه وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي هو ذكره لهما ، واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما ، هذا أسدها وأوضحها .

التالي السابق


الخدمات العلمية