صفحة جزء
فرع [ كون الواحد واجبا وحراما باعتبارين ] قال الجمهور : المجوزون كون الواحد واجبا وحراما باعتبارين هذا إذا أمكن الإتيان بأحدهما منفكا عن الآخر ، أما إذا لم يمكن ذلك بحيث لا يخلو المخاطب عنهما ، بأن يقول : لا تنطق ، ولا تسكت ، ولا تتحرك ، ولا تسكن ، فإن منعنا تكليف المحال منعناه ، وإن جوزناه جوزناه عقلا لكنه لم يقع ، فعلى هذا من توسط أرضا مغصوبة أو تخطى زرع غيره ، ثم تاب وتوجه للخروج ، واختار أقرب الطرق ، أو أدخل فرجه في محرم ، ثم خرج فخروجه واجب لا تحريم فيه ، وإن وجد فيه اعتباران ، الشغل والتفريغ ; لأنه لا يمكن الإتيان بالتفريغ إلا بالشغل . قال القاضي : هذا هو المختار ، وكذلك القول في كف الزاني عن الزنى . قال ابن برهان : وهذا مما أجمع عليه كافة الفقهاء والمتكلمين . وقال أبو هاشم : خروجه كلبثه ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وذلك قبيح لعينه فهو منهي عنه بهذا الاعتبار ومأمور به ; لأنه انفصال عن المكث نقله إمام الحرمين عنه ، وحكاه القاضي عن أبي الشمر من [ ص: 353 ] الأصوليين ، وهو في الحقيقة تكليف بالمحال لجمعه بين النقيضين ، فإنه منهي عن الشيء ونقيضه في فعل واحد ، وقد بناه أبو هاشم على أصله الفاسد في الحسن والقبح ، فأصله الفاسد من منع التكليف بالمحال .

وحاصل الخلاف : أن الأمر الشرعي هل يبقى مستمرا أو ينقطع ؟ وقال إمام الحرمين : إن كان متعمدا لتوسطها فهو مأمور بالخروج ، وإنما يعصي بما تورط به من العدوان السابق ، وقال : وهو مرتبك في المعصية بحكم الاستصحاب مع انقطاع تكليف النهي . وحاصله : أنه عاص في خروجه ولا نهي عليه فسقوط النهي لعدم الإمكان ، وتعصيته لتسببه الأول ، وهو بعيد ، إذ ليس في الشرع معصية من غير نهي ولا عقاب من غير نهي ، وهو قريب من مذهبه في مسألة خطاب الكفار بالفروع . قال : وكذلك من غصب مالا وغاب به ، ثم تاب وتوجه راجعا ، وكذا استبعده ابن الحاجب وضعفه الغزالي لاعترافه بانتفاء النهي ، فالمعصية إلى ماذا تستند ؟ . وحاصله : أنه لا معصية إلا بفعل منهي عنه أو ترك مأمور به ، وقد سلم انتفاء تعلق النهي به فانتهض الدليل عليه ، فإن قيل : فيه جهتان يتعلق الأمر بافتراغ ملك الغير ، والنهي عن اللبث ، كالصلاة في الدار المغصوبة سواء كما قاله في " البرهان " : قلنا : ممنوع ; لأن الخروج شيء واحد ، ولا جهتين لتعذر الامتثال بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة ، فإن الامتثال ممكن ، وإنما جاء الاتحاد من جهة اختيار المكلف ، والتكليف بالمحال لا خير للعبد فيه ، فلا يكلف . [ ص: 354 ]

قلت : وقد تعرض الشافعي في " الأم " لهذه المسألة فقال في كتاب الحج في المحرم إذا تطيب : ولا رخصة له في تركه إذا قدر على غسله ، وهذا مرخص له في التيمم إذا لم يجد ماء ، ولو غسل الطيب غيره كان أحب إلي ، وإن غسله هو بيده يفتدي من غسله . قيل : إن عليه غسله ، وإن ماسه فلا ، إنما ماسه ليذهبه عنه ، ثم يماسه ليتطيب به ولا يثبته ، وهذا ما وجب عليه الخروج منه خرج منه كما يستطيع ، ولو دخل دار رجل بغير إذن لم يكن جائزا له ، وكان عليه الخروج منها ، ولم أزعم أنه يخرج بالخروج ، وإن كان يمشي ما لم يؤذن له ، ولأن مشيه للخروج من الذنب لا للزيادة منه ، فهكذا هذا الباب كله . ا هـ لفظه . وهو صريح في أن من تورط في الوقوع في حرام فيتخلص منه لا يوصف حالة التخلص بالإثم ; لأنه تارك له فلا يتعلق به تحريم ، كما لو خرج من الدار المغصوبة لا يتعلق به تحريم الدخول . وقال الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب الصوم من " الفروق " : قد نص الشافعي على تأثيم من دخل أرضا غاصبا ، ثم قال : فإذا قصد الخروج منها لم يكن عاصيا بخروجه ; لأنه تارك للغصب . ا هـ . والتحقيق : أن نفس إشغال الحيز باق على تحريمه ، ونفس الانتقال هو جائز بل هو واجب ، إذ هو وسيلة إلى ترك الحرام ، ومثله لو قال : إن وطئتك فأنت طالق . هل يمتنع عليه الوطء ؟ . [ ص: 355 ] قال ابن خيران : نعم ; لأن الطلاق يقع عند تغييب الحشفة والنزع يقع بعد وقوع الطلاق ، وقال عامة الأصحاب : بل يجوز ، ونص عليه في " الأم " ; لأن الوطء يقع في النكاح ، والذي يقع بعد وقوع الطلاق هو النزع ، والنزع ترك المأثم ، والخروج عن المعصية ليس بحرام . قال الرافعي : ويشبه ذلك ما لو قال لرجل : ادخل داري ولا تقم فيها .

ثم ذكر إمام الحرمين أن غرضه يظهر بمسألة ألقاها أبو هاشم ، فحارت فيها عقول الفقهاء وهي من توسط جمعا من الجرحى ، وجثم على صدر واحد منهم ، وعلم أنه لو بقي على ما هو عليه لهلك من تحته ، ولو انتقل لهلك آخر ، يعني مع تساوي الرجلين في جميع الخصال . قال : وهذه المسألة لم أتحصل فيها من قول الفقهاء على ثبت ، والوجه : القطع بسقوط التكليف عن صاحب الواقعة مع استمرار حكم سخط الله وغضبه ، ووجه السقوط استحالة التكليف بالمحال واستمرار العصيان ، لتسببه إلى ما لا يخلص منه ، ولو فرض إلقاء رجل على صدر آخر ، بحيث لا ينسب إلى الواقع اختيار فلا تكليف ولا عصيان . وقال الغزالي : يحتمل ذلك ، ويحتمل أن يقال : يمكث ، فإن الانتقال فعل مستأنف ، ويحتمل التخيير ، وقال في " المنخول " : المختار أنه لا حكم لله فيه ، فلا يؤمر بمكث ولا انتقال ، ولكن إن تعدى في الابتداء [ ص: 356 ] استصحب حكم العدوان ، وإن لم يتعد فلا تكليف عليه ، ونفى الحكم حكم الله في هذه الصورة .

وقال في آخر الكتاب حكم الله فيه أن لا حكم ، وهو نفي الحكم . هذا ما قاله الإمام فيه ، ولم أفهمه بعد ، وقد كررته عليه مرارا ، ولو جاز أن يقال : نفي الحكم حكم لجاز أن يقال ذلك قبل ورود الشرائع ، وعلى الجملة جعل نفي الحكم حكما تناقض ، فإنه جمع بين النفي والإثبات إن كان لا يعني به تخيير المكلف بين الفعل والترك ، وإن عناه فهو إباحة محققة لا دليل عليها . قال الإبياري ، وهذا أدب حسن مع الإمام ، وقوله : هذا لا أفهمه يعني لا لعجز السامع عن فهمه بل لكونه غير مفهوم في نفسه . ا هـ . وللإمام أن يقول : أردت انتفاء الحكم يعني الحكم الخاص وهي الأحكام الخمسة ، وتكون البراءة الأصلية حكما لله بهذا الاعتبار ، وقد قال في كتاب الصداق من " النهاية " : ليس يبعد عندنا أن يقال بنفي الحرج عنه فيما فعله ، وهذا حكم ، ولا يبعد أن يقال : انتقالك ابتداء فعل منك واستقرارك في حكم استدامة ما وقع ضروريا ، ويؤيد أن الانتقال إنما يجب في مثل ذلك إذا كان ممكنا ، وإذا امتنع بإيجابه بحال ، والممتنع شرعا كالممتنع حسا وطبعا . قال : وهذا في الدماء لعظم موقعها بخلاف الأموال ، فالتحقيق فيها ليس بالبدع ، فلو وقع بين أوان ولا بد من انكسار بعضها أقام أو انتقل فيتعين [ ص: 357 ] في هذه الصورة التخيير . ا هـ .

وقد سأل الغزالي الإمام في كبره عن هذا ، فقال له : كيف تقول لا حكم وأنت ترى أنه لا تخلو واقعة عن حكم ؟ فقال : حكم الله أن لا حكم ، فقلت له : لا أفهم هذا ؟ وقال ابن برهان : إن تسبب إلى الوقوع أثم بالنسب ، وإلا فلا إثم ولا ضمان . وقال ابن عقيل من الحنابلة : إن وقع على الجرحى بغير اختياره لزمه المكث ، ولا يضمن ما تلف بسقوطه ، وإن تلف شيء باستمرار وكره ، أو بانتقاله لزمه ضمانه ، ولا يجوز له أن ينتقل إلى آخر قطعا . وقال ابن المنير في " شرح البرهان " يحتمل وجوب البقاء عليه ; لأن الانتقال استئناف فعل بالاختيار مهلك ولا كذلك الاستصحاب ، فإنه أشبه بالعدم ; لأنه الأصل ، ويحتمل أن يقال : ينتقل ; لأن الانتقال يحقق المصلحة في سلامة المنتقل عنه ، ويحتمل أن يهلك المنتقل إليه ، أو يموت بأجله قبل الجثوم إليه ، ويحتمل أن يتخير ; لتعادل المفسدتين .

قال : ولعمري لقد دلس بفرضها ; لأنه لا يضيق كما زعم إلا بأن نفرض جوهرين مفردين متلاصقين ، قد جثم جوهر فرد على أحدهما فإن بقي أهلك ، وإن انتقل فر من انتقاله عن الجوهر الأول ، وهو زمن جثومه على الجوهر الثاني لا يتخلل بينهما زمن وهذا فرض مستحيل ، فإن الأجسام أوسع من ذلك ، وأزمنة انتقالها معدودة ، فهو إذا انتقل مضت أزمنة بين الانتقال والجثوم هو فيها سالم من القضيتين ، ويحتمل أن يموت الثاني قبل الجثوم عليه ، فيسلم من المعصية مطلقا فالانتقال مترجح فيتعين ، وكذلك متوسط البقعة المغصوبة ، حكم الله عليه وجوب الخروج ، ويكون به مطيعا لا عاصيا . [ ص: 358 ] قال : والعجب من قول الإمام في مسألة أبي هاشم : لا تكليف على المتوسط ، وبخلو الواقعة مع التزامه في باب القياس عدم الخلو ، واحتجاجه بأن نفي الحكم حكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية