صفحة جزء
[ ص: 157 ] مسألة إذا تعارض نصان ، فإما أن يكونا عامين أو خاصين ، أو أحدهما عاما والآخر خاصا ، أو كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه آخر . فهذه أربعة أنواع وكل واحد من هذه الأنواع ينقسم ثلاثة أقسام : لأنهما إما أن يكونا معلومين أو مظنونين أو أحدهما معلوما والآخر مظنونا ، فحصل اثنا عشر ، وكل منها إما أن يعلم تقدمه أو تأخره أو يجهل فتصير القسمة من ستة وثلاثين : أما النوع الأول : فهو أن يكونا معلومين ، ويقع على ثلاثه أضرب : ( الضرب الأول ) : أن يكونا معلومين وعلم التاريخ ، فالمتأخر ناسخ للمتقدم ، سواء كانا آيتين أو خبرين أو أحدهما آية والآخر خبرا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس . أما من يمنعه فيمنع الفسخ في هذا الأخير ، قاله الهندي . وقال الأرموي الشافعي : وإن لم نقل بوقوع نسخ الخبر المتواتر بالكتاب ، ولا بالعكس ، ولكنه إذا تعارضا وأحدهما متقدم تعين المتأخر ، وهذا إذا كان حكم المتقدم قابلا للنسخ ، وإلا كصفات الله تعالى قال الإمام : فيتساقطان ، ويجب الرجوع إلى دليل . واعترض عليه النقشواني ، فإن المدلول إذا لم يقبل النسخ يمتنع العمل بالمتأخر ، فلا يعارض المتقدم ، بل يجب إعمال المتقدم كما كان قبل ورود المتأخر .

قلت : وهذا إذا كان نقل التاريخ متواترا أيضا ، فإن كان النصان متواترين والنسخ آحادا فيتجه فيه طريقتان : [ ص: 158 ] إحداهما ) : إجراء خلاف مبني على النسخ بالآحاد ، فإن جوزناه نسخنا بما دلت الآحاد على أنه متقدم ، وعملنا بالمتأخر . وإن منعناه حكمنا بتعارض الظنين ورجعنا إلى الأصل أو التخيير . و ( الثانية ) : القطع بقبول الآحاد في تاريخ المتواتر ، وهي الصحيحة ، لأن انسحاب العمل بالمتواتر في سائر الأزمنة مظنون ، فما رفضنا إلا مظنونا بمظنون ، وأما عكس هذه الصورة ، أن يفرض التاريخ متواترا ، أو المتن آحادا ، فهذا غير متصور . هذا كله إذا علم المتقدم ، فإن علم مقارنتهما ، فإن أمكن التخيير بينهما تعين القول به ، فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ، وإن جهل التاريخ تساقطا ووجب الرجوع إلى غيرهما ، لجواز أن يكون كل واحد منهما هو المتأخر فيكون ناسخا ، إذ التقدم يكون منسوخا . هكذا أطلقوه .

وهذا إذا لم يمكن تطرق النسخ إلى أحدهما ، فإن أمكن فالشافعي يرجح ما لا يتطرق إليه ذلك ، ورآه أولى من الحكم بتساقطهما ، حكاه عنه الإمام في البرهان " وذكر له مثالين تخرج منهما صورتان : ( إحداهما ) : إذا أرخ أحدهما وسكت الآخر عن التاريخ ، كحديث { إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون } مع جلوس النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته والمقتدون به قيام . والحديث الأول مطلق ، فغلب على الظن أنه كان قاله في صحته . و ( الثانية ) : أن يكون إسلام راوي أحدهما متأخرا عن إسلام الآخر ، كحديث قيس بن طلق في عدم نقض الوضوء بمس الذكر ، وهو متقدم الإسلام ، مع حديث أبي هريرة بالنقض ، وهو متأخر الإسلام ، فيتطرق النسخ إلى حديث قيس . ثم حكى الإمام عن قوم بقاء التعارض ، إذ لا يصار إلى الفسخ بمجرد [ ص: 159 ] الاحتمال ، ثم توسط فقال : إن عدم المجتهد متعلقا سواه فكقولي . الشافعي ، لأنه أولى من تعطيل الحكم وتعرية الحادث عن موجب الشرع ، وإن وجد غيرها ووجد القياس مضطربا عدل عنهما وتمسك بالقياس ، ثم الخبر الذي بعد ظن النسخ يستعمل مرجحا لأحد القياسين على الآخر . وهذا التفصيل يفرض المسألة في قياسين تعارضا أو خبرين كذلك .

وهو مخالف لتصويره السابق في تعارض خبرين مطلقا ، سواء وجد القياس مع كل منهما أو مع أحدهما أو لم يوجد ألبتة . وأورد الإبياري على تفصيله أنه هلا عمل بالخبر الراجح وجعل القياس الموافق له مرجحا ؟ وأجاب ابن المنير بأنه لما لم يجد في التوقيف مستندا استأنف الظن في الأقيسة فوجدها أيضا متعارضة ، ولكن وجد أحد قياسيه على وفق الخبر الراجح ، فجعل القياس مستندا ، لأنه لو جعل الخبر الراجح مستندا بعد أن سبق منه إلغاء كونه مستندا لكان نقضا لحكم ثبت . وحاصل الخلاف يرجع إلى أن المسألة توقيفية أو قياسية ، ويظهر أثره في نقض حكم الحاكم . ونقل ابن المنير في الصورة الأولى أن مذهب مالك يقدم المؤرخ على المهمل ، لأن المؤرخ يقطع به في وقت معين ، بخلاف المهمل فإنه ما من وقت إلا ويحتمل فيه الثبوت والعدم ، فيقدم المقطوع به في تاريخ معين ، لأن المبين مقدم على المجمل ، فالترجيح في هذه الصورة مبني على المقابلة بين البيان والإجمال ، والترجيح في الثانية مبني على المقابلة بين الإجمال القوي والضعيف . وهذا يرد إيراد الإبياري على المنقول عن الشافعي احتمال أن متأخر الإسلام تحمل في حال الكبر . وجوابه : أن التحمل في حال الإسلام أغلب ، وقبل الإسلام أندر ، فيقدم الغالب على النادر ، وليس كل احتمال واقعا ، فتأمل هذا الفصل ، فإن معرفته من غايات الآمال . ( الضرب الثاني ) : أن يكونا مظنونين ، فإن علم تقدم أحدهما على الآخر نسخ المتأخر المتقدم ، وإلا وجب الترجيح ، فيعمل بالأقوى .

[ ص: 160 ] الضرب الثالث ) : أن يكون أحدهما معلوما والآخر مظنونا ، فإن علم تقدم أحدهما ، وكان هو المظنون ، كان المعلوم المتأخر ناسخا وإن كان المعلوم متقدما ، ما لم ينسخه المظنون فنعمل بالمعلوم . وإن جهل عمل بالمعلوم ، سواء علمت المقارنة أو لا . .

التالي السابق


الخدمات العلمية