صفحة جزء
مسألة [ تحريم واحد لا بعينه ] يجوز أن يحرم واحد لا بعينه من أشياء معينة ، ومنهم من منع [ ص: 359 ] ذلك ، وقال : لم ترد به اللغة ، وأولوا قوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } على جعل " أو " بمعنى الواو ، ومنهم من منع ذلك من جهة العقل ; لأنه إذا قبح أحدهما قبح الآخر فيلزم اجتنابه ، وهذان القولان حكاهما القاضي في " التقريب " وابن القشيري في " أصول " عن بعض المعتزلة ، وحكى المازري الأول في " شرح البرهان " محتجا أن النهي في الآية عن طاعتهما جميعا . قال : وهذا ليس بشيء ، ولولا الإجماع على أن المراد في الشرع النهي عن طاعتهما جميعا لم تحمل الآية على ذلك ، والمشهور جوازه ووقوعه .

وعلى هذا فاختلفوا ، فعندنا أنه لا يقتضي تحريم الكل بل المحرم واحد لا بعينه ، ويجوز له فعل أحدهما ، وإنما يقتضي النهي عن الجمع بينهما كما في جانب الإيجاب ، كذا قاله القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق ، وابن برهان ، وابن السمعاني في " القواطع " ونقله ابن برهان عن الفقهاء والمتكلمين . وقال المعتزلة : الكل حرام ، كقولهم في جانب الإيجاب : الكل واجب لكنهم لم يوجبوا الجمع هناك ، وهنا أوجبوا اجتناب الكل ، فيبقى النزاع هنا معنويا بخلاف ما قالوه . وتوقف فيه الهندي ، إذ لا يظهر بينهما فرق . قال : والقياس التسوية بين الوجوب والتحريم ; لأن الوجوب كما يتبع الحسن الخاص عندهم . فكذا التحريم يتبع القبح الخاص ، فإن وجب الكف عن الجميع بناء على استوائهما في المعنى الذي يوجب التحريم ، فليجب فعل الجميع في صورة الوجوب بناء على استوائهما في المعنى الذي يقتضي الإيجاب . [ ص: 360 ] قلت : مأخذ الخلاف هنا : أن المعتزلة جعلوا متعلق التحريم القدر المشترك ، ونحن نخالفهم ، ونقول : متعلق أحد الخصوصيين ، وإن شئت قلت : إحدى الحصتين المعينتين لا بعينها ، وأما القرافي من المتأخرين فإنه فرق بين الأمر المخير بين واحد من الأشياء ، والنهي المخير ، فإن الأمر متعلق بمفهوم أحدها والخصوصيات متعلق التخيير ، ولا يلزم من إيجاب المشترك إيجاب الخصوصيات كما مضى .

وأما النهي فإنه إذا تعلق بالمشترك لزم منه تحريم الخصوصيات ; لأنه لو دخل منه فرد إلى الوجود لدخل في ضمنه المشترك المحرم ، ووقع المحذور ، كما إذا حرم الخنزير يلزم تحريم السمين منه والهزيل والطويل والقصير ، وتحريم الجمع بين الأختين ونحوه إنما لاقى في المجموع عينا لا المشترك بين الأفراد ، فالمطلوب منه أن لا يدخل ماهية المجموع في الوجود ، والماهية تنعدم بانعدام جزء منها ، وأي أخت تركها خرج عن عهدة المجموع فليس كالأمر .

وقال الشيخ علاء الدين الباجي من المتأخرين : الحق نفي التحريم المخير ; لأن المحرم في الأختين الجمع بينهما كما نطق به القرآن لا إحداهما ، ولا كل واحد منهما بخلاف الواجب المخير ، فإن الواجب إما أحدها أو كل منهما على التخيير ، وفي كلام البيضاوي إشارة إليه . وما ذكره القرافي مأخذه من قوله : إن النهي عن نوع يستلزم النهي عن كل أفراده ، إذ في كل فرد النهي ، مثل " لا تزن " فلا شيء من الزنى بحلال ، [ ص: 361 ] وإلا لصدق أنه زنى .

والأمر على هذا الوجه ، غير أن قوما يتلقون ذلك من كون النكرة في سياق النفي للعموم ، وآخرون يتلقونه من أن النهي عن الكل يستلزم بعض أفراده وقال صاحب " الواضح " من المعتزلة : النهي عن أشياء على التخيير إن كان على سبيل الجمع كقوله : لا تفعل كذا وكذا فإن أمكنه الخلو منها كلها كقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } فهو منهي عن الجميع ، وإلا لم يحسن النهي عن كلها كقوله : لا تفعل في يدك حركة ولا سكونا . وقال إلكيا الهراسي : الذي يقتضيه رأي أصحابنا في النهي عن أشياء على التخيير أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه ، ولا يصح أن يكون الأضداد بجملتها قبيحة ، ولا ينفك الإنسان عن واحد منها ، فلا يحسن أن ينهى عنها بأجمع ، فإذا نهى عن ضدين قد ينفك عنهما إلى ثالث صح ، ويصح منه فعلها جميعا ; لأن أي واحد منها فعله كان قبيحا ، والنهي عنهما مع تضادهما عن الجمع لا يحسن ; لأن الجمع بينهما ليس في المقدور ، وما لا يقدر عليه لا يكلف به ، ومتى ما أمر بشيئين ضدين كان له فعل كل واحد منهما . وهذا يبين صحة ما قدمناه من أنه إذا لزم المكلف أن يفعل أحد الضدين كانا واجبين على التخيير ، فإذا نهي عن أحدهما لا يصح إلا أن يكون محل النهي ، فأما النهي عن شيئين مختلفين يصح الجمع بينهما على التخيير ، فلا يصح ، ويفارق الأمر في ذلك . وقال في موضع آخر : مما يفارق الأمر النهي : أنه إذا نهي عن أشياء بلفظ التخيير لم يجز له فعل واحد منهما ، ولفظ التخيير فيه كقوله تعالى { ولا تطع منهم } الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية