صفحة جزء
الثالث - الترجيح بحسب الأمور الخارجية وله أسباب أولها - اعتضاد أحد الخبرين بقرينة الكتاب كتقديم ( الحج والعمرة فريضتان ) على رواية ( العمرة تطوع ) لموافقته لحكم القرآن من كتاب الله تعالى ، وهو قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } . وهذا قاله الشافعي فعارضه القاضي وقال : وقوله أتموا " دليل مستقل . ونحن نقول للقاضي : يجوز الترجيح بالمستقل وإن منعناه لكنا أخذنا من المستقل وصفا في الدليل ، وهو تراخي النظم . وكان الشافعي يقول : ما وافق ظاهر الكتاب كانت النفوس أميل إليه ، والقاضي يقول : بل الذي [ ص: 203 ] يخالف ظاهر الكتاب لا ينقل ما نقل إلا عن زيادة الثبت .

وما ذكره القاضي أقرب إلى قياس الأصول ، وما ذكره الشافعي أوفق للعرف وهو المعتبر . وقال إمام الحرمين : ما ذكروه عن الشافعي فيه نظر ، فإن إتمام الحج ليس فيه تعرض للابتداء ، وهما مفترقان في وجوب إتمامهما بعد الشروع فيهما . قال : ولم يذكر هذا لأن الشافعي ذكره متنمقا بإيراد كلامه : ونحن نقول للإمام : الإتمام يطلق تارة على أصل الفعل وعلى إتمامه بعد الشروع فيه ، لكن المراد هنا الأول ، فإن الآية نزلت في عام الحديبية ولم يكن صلى الله عليه وسلم محرما بالحج حتى يؤمر بإتمامه . ومن مثله التغليس بالفجر ، فإنه موافق لقوله تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } . وكترجيح حديث ابن عباس في التشهد ، لموافقته لقوله : { تحية من عند الله مباركة طيبة } ، وترجيح حديث عائشة في البكاء على الميت ، لقوله : { لا تزر وازرة وزر أخرى } وهذا يستعمله الشافعي كثيرا ، وبنى عليه هذه الأصول .

وكذا قدم حديث خوات في صلاة ذات الرقاع على رواية [ ص: 204 ] ابن عمر ، لأجل الحذر المأمور به في القرآن ، وجعله في المنخول " من أصله ، فوافق الأصول ، لأن رواية خوات ، الأفعال فيها قليلة ، قال : وقال القاضي للشافعي : إن كنت تتهم ابن عمر بحيده عن القياس فمحال ، وليس القياس مناسبا لمأخذ الدليل حتى يقدح فيه . وإن قلت : إن الغالب على الرسول الجري على قياس الأصول فيعارضه أن الغالب أن الناقل عن القياس يكون أثبت في الرواية من المستمر عليه . ولهذا تقدم شهادة الإبراء على شهادة أصل الدين . قال إلكيا : وما ذكره الشافعي أوجه في مطرد العادة والعرف ولا يظهر للمسألة فائدة في الحكم ، وإنما الخلاف في الطريق ، وهذا الخلاف بين الشافعي والقاضي فيما يرجع إلى النص ، أما إذا تعارض ظاهران واعتضد أحدهما بقياس فلا شك أن الذي لم يتجه فيه تأويل متأيد للقياس لا يبالى به . ولو تعارض قياسان عاضدان للتأويل وأحدهما أجلى قدم الأجلى ، ولو تعارض ظاهران أو نصان وأحدهما أقرب إلى الاحتياط فالقاضي يرى تعارضهما أخذا مما تقدم ، والشافعي يرى تقديم الأحوط ، لأنه أقرب إلى مقصود الشارع ، كرواية خوات مع ابن عمر ، وكإحدى الآيتين إذا تضمنت إحداهما تحليلا والأخرى تحريما . وقد قال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية . فلا يتجه في ذلك إلا الحكم بالاحتياط . .

التالي السابق


الخدمات العلمية