صفحة جزء
الثالث - ما يتعلق بالأحكام الشرعية الفقهية : فقال الأصم وبشر المريسي : إن الحق فيها واحد وأن أدلتها قاطعة ، فلذلك من تعدى الحق فيها فهو مخطئ وآثم ، فكيف بمسائل العقائد ، وإنما يستقيم هذا المذهب إذا لم يكن القياس حجة ، وكذلك خبر الواحد والعمومات كلها ، فالحجج المثبتة لكون هذه حجة يلزمها بطلان هذا المذهب . وأما جمهور الأمة فقد قالوا : إن هذه المسائل منها ما لا يسوغ فيه الاجتهاد ، ومنها ما ليس كذلك ، والتي لا يسوغ فيها الاجتهاد وهي التي أدلتها قاطعة فيها ، فإنا نعلم بالضرورة أنها من دين النبي عليه الصلاة والسلام كوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان وتحريم الزنى والخمر ، والمخطئ في هذا كافر لتكذيبه الله تعالى ورسوله . ومنها ما ليس كذلك ، كجواز بيع الحصا ، وتحريم الخنزير والمخطئ في هذه آثم غير كافر .

[ ص: 282 ] وأما التي يسوغ فيها الاجتهاد فهي المختلف فيها ، كوجوب الزكاة في مال الصبي ، ونفي وجوب الوتر وغيره مما عدمت فيها النصوص في الفروع ، وغمضت فيها الأدلة ويرجع فيها إلى الاجتهاد ، فليس بآثم . قال ابن السمعاني : ويشبه أن يكون سبب عوضها امتحانا من الله لعباده ، ليتفاضل بينهم في درجات العلم ومراتب الكرامة ، كما قال تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } { وفوق كل ذي علم عليم } . وعلى هذا يتأول ما ورد في بعض الأخبار : { اختلاف أمتي رحمة } فعلى هذا النوع يحمل هذا للفظ دون النوع الآخر ، فيكون اللفظ عاما والمراد خاصا . واختلف العلماء في حكم أقوال المجتهدين ، هل كل مجتهد مصيب ، أو المصيب واحد ؟ واختلف النقل في ذلك .

ونحن نذكر ما وقفنا عليه من كلامهم فنقول : قال الماوردي والروياني في كتاب القضاء : ذهب الأكثرون إلى أن الحق في جميعها ، وأن كل مجتهد مصيب فيما عند الله ، ومصيب في الحكم ، لأن جواز الجميع دليل على صحة الجميع ، قال الماوردي وهو قول أبي الحسن الأشعري والمعتزلة . وقالت الأشعرية بخراسان : لا يصح هذا المذهب عن أبي الحسن ، قال : والمشهور عنه عند أهل العراق ما ذكرناه ، وأن من أدى اجتهاده إلى حكم يلزمه العمل به ولا تحل له مخالفته . فدل على أنه الحق [ ص: 283 ] وذهب الشافعي رحمه الله وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء رحمهم الله إلى أن الحق في أحدهما ، وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين ، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا حراما ، ولأن الصحابة تناظروا في المسائل واحتج كل واحد على قوله ، وخطأ بعضهم بعضا ، وهذا يقتضي أن كل واحد يطلب إصابة الحق .

ثم اختلفوا هل كل مجتهد مصيب أم لا ؟ فعند الشافعي أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين ، وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد ، وبه قال مالك وغيره . وقال أبو يوسف وغيره : كل مجتهد مصيب وإن كان الحق في واحد ، فمن أصابه فقد أصاب الحق ، ومن أخطأه فقد أخطأه . ونسبه بعض أصحابنا المتأخرين إلى الشافعي ، تمسكا بقوله : " وأدى ما كلف " . فظن أنه أراد بذلك " أصاب " ، وغلطوه فيه ، وإنما أراد أنه في معنى من أدى ما كلف به أنه لا يأثم . انتهى .

وقال القاضي أبو الطيب الطبري : الحق من قول المجتهدين واحد ، والآخر باطل ، وإن اختلفوا على ثلاثة أقاويل فأكثر . قال أبو إسحاق المروزي في " الشرح " في أدب القضاء : هذا قول الشافعي في الجديد والقديم ، لا أعلم اختلف قوله في ذلك ، وقد نص عليه في مواضع ، ولا أعلم أحدا من الصحابة اختلف في ذلك على مذهبه ، وإنما نسب قوم من المتأخرين ممن لا معرفة لهم بمذهبه إليه أن كل مجتهد مصيب ، وادعوا ذلك عليه ، وتمسكوا بقوله في المجتهد : " أدى ما كلف " فقالوا : المؤدي ما كلف مصيب . قال أبو إسحاق : وإنما قصد الشافعي بذلك رفع الإثم عنه ، لأنه لو قصد خلاف الحق لأثم ، وإذا خالف من غير قصد لم يكن آثما ، وكان بمنزلة المؤدي ما كلف . قال القاضي أبو الطيب : ويحتمل أن يكون معناه : أدى ما كلف عند نفسه ، فإنه يعتقد وضع الدليل في حقه ، وسلك ما وجب من طريقه .

[ ص: 284 ] قال أبو إسحاق : وكل موضع رأيت فيه من كلام الشافعي هذه الألفاظ فاقرأ الباب فإنك تجد قبله وبعده نصا على أن الحق في واحد ، وأن ما عداه خطأ . ثم غلط أبو إسحاق القول على من نسب إلى الشافعي : كل مجتهد مصيب . قال القاضي أبو الطيب : ويدل على أن هذا مذهبه : إذا اجتهد اثنان في القبلة فأدى اجتهادهما إلى جهتين مختلفتين فتوجه كل واحد منهما إلى جهته ، ولو ائتم أحدهما بالآخر لم تصح صلاته . وهذا يدل على أن الإمام مخطئ عنده . وكذلك من صلى خلف من لا يقرأ فاتحة الكتاب ، وله نظائر . وحكي عن أبي إسحاق أنه قال : ويشبه أن تكون المسألة على قولين ، لأن الشافعي ذكر قولين فيمن أخطأ القبلة بيقين ، هل تلزمه الإعادة أم لا ؟ والأصح : عليه الإعادة . ومن يقول : كل مجتهد مصيب يقول : لا إعادة عليه . وكذلك قال : لو دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا ، تلزمه الإعادة ؟ قولان : قال القاضي : وهذه الطريقة اختيار أبي حامد ، وهو الذي حكاها عن أبي إسحاق . والصحيح عن أبي إسحاق ما ذكرنا . وقال أبو علي الطبري صاحب " الإيضاح " في " أصوله " إن الله نصب على الحق علما ، وجعل لهم إليه طريقا فمن أصابه فقد أصاب الحق ، ومن أخطأه عذر بخطئه وأجر على قصده . ثم قال : وبه قال الشافعي وجملة أصحابه . وقد استقصى المزني ذلك في كتاب " الترغيب في العلم " وقطع بأن الحق في واحد ودل عليه ، وقال : إنه مذهب مالك والليث وهو مذهب كل من صنف من أصحاب الشافعي من المتقدمين والمتأخرين . وإليه ذهب من الأشعريين أبو بكر بن مجاهد . وابن فورك وأبو إسحاق الإسفراييني ، وقال : نقضت هذه المسألة على البصري المعروف بجعل . وقال القاضي : وقد ذكر أبو الحسن الأشعري القولين جميعا ، وقد أبان .

[ ص: 285 ] الحق في واحد " ، ولكنه مال إلى اختيار : " كل مجتهد مصيب " وهذا مذهب معتزلة البصرة وهم الأصل في هذه البدعة ، وقالوا هذا لجهلهم بمعاني الفقه وطرقه الدالة على الحق ، الفاصلة بينه وبين ما عداه من الشبه الباطلة ، وقالوا : ليس فيها طريق أولى من طريق ، ولا أمارة أقوى من أخرى ، والجميع متكافئون . ومن غلب على ظنه شيء حكم به ، فيحكمون فيما لا يعلمونه وليس من شأنهم ، وبسطوا لذلك ألسنة نفاة القياس منهم ومن غيرهم القائلين بأنه لا يصح القياس والاجتهاد لأن ذلك يصح في طلب يؤدي إلى العلم أو إلى الظن ، وليس في هذه الأصول ما يدل على أحكام الحوادث علما و ظنا .

قال القاضي أبو الطيب : وفي المسألة قول ثالث ، وهو أن الحق واحد ، ولكن الله تعالى لم يكلفنا إصابته ، وإنما كلف الاجتهاد في طلبه ، وكل من اجتهد في طلبه فهو مصيب ، وقد أدى ما كلف . وقال أبو علي الطبري في أصوله " : قد أضاف قوم من أصحابنا هذا إلى الشافعي ، واستدل بقوله : " لأنه أدى ما كلف " : قال : وهو خطأ على أصله ، لأنه نص على أن الحق واحد ، وأن أحدهما مخطئ لا محالة . قال القاضي أبو الطيب : واختلف النقل عن أبي حنيفة فنقل أنه ذكر في بعض المسائل ، كقولنا . وفي بعضها كقول أبي يوسف . ولنا أن الحق لما كان في واحد لم يكن المصيب إلا واحدا . ولو كان كل مجتهد مصيبا ما أخطأ مجتهد . وقال عليه الصلاة والسلام : { إذا اجتهد الحاكم فأخطأ } انتهى . وقال ابن كج : صار عامة أصحابنا إلى أن الحق في واحد ، والمخطئ له معذور . وقال أهل العراق وأصحاب مالك : كل مجتهد مصيب ، وإليه ذهب ابن سريج وأبو حامد .

إلا أنه كلف ما أدى إليه اجتهاده . ثم نص ابن كج على هذا بإجماع الصحابة على تصويب بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه ، ولا يجوز إجماعهم على خطأ . ثم قال : إنه معذور . [ ص: 286 ] وقال ابن فورك في كتابه : للناس فيها ثلاثة أقاويل : أحدها - أن الحق في واحد ، وهو المطلوب ، وعليه دليل منصوب ، فمن وضع النظر موضعه أصاب الحق ، ومن قصر عنه وفقد الصواب فهو مخطئ ولا إثم ، ولا نقول ; إنه معذور ، لأن المعذور من يسقط عنه التكليف لا عذر في تركه ، كالعاجز على القيام في الصلاة . وهو عندنا قد كلف إصابة العين لكنه خفف أمر خطئه وأجر على قصده الصواب ، وحكمه نافذ على الظاهر . وهذا مذهب الشافعي وأكثر أصحابه وعليه نص في كتاب " الرسالة " و " أدب القاضي " .

وقال : كل مجتهدين اختلفا فالحق في واحد من قوليهما . والثاني - أن الحق واحد إلا أن المجتهدين لم يكلفوا إصابته ، وكلهم مصيبون لما كلفوا من الاجتهاد ، وإن كان بعضهم مخطئا . والثالث - أنهما كلفوا الرد إلى الأشبه على طريق الظن . انتهى . فحصل وجهان في أنه يقال فيه معذور أم لا . وقال الشيخ أبو إسحاق : اختلف أصحابنا ، فقيل : الحق في واحد ، وما عداه باطل ، إلا أن الإثم مرفوع عن المخطئ ، وقيل : إن هذا مذهب الشافعي . وقيل : فيه قولان هذا أحدهما . والثاني : إن كل مجتهد مصيب ، وهو ظاهر قول مالك وأبي حنيفة ، وهو مذهب المعتزلة وأبي الحسين ، وحكى القاضي أبو بكر عن أبي علي بن أبي هريرة أنه كان يقول بأخرة : إن الحق في واحد مقطوع به عند الله ، وأن مخطئه مأثوم ، والحكم بخلافه منقوض ، وهو قول الأصم وابن علية وبشر المريسي .

التالي السابق


الخدمات العلمية